في بداية حياتي الصحفية قبل أكثر من ربع قرن كان لدي دائماً مشواران أحرص عليهما يومياً.. صباحاً أذهب إلي «ماسبيرو» التقط الأخبار ومساءً أذهب إلي المسرح لأواصل التقاط الأخبار وتأتي حصيلتي اليومية دائماً ممتلئة رغم أنني كنت أمارس الصحافة في مجلة أسبوعية «روز اليوسف» فإنني كنت ولا أزال مؤمناً أن الصحفي يساوي الخبر!! زملائي من أبناء هذا الجيل صار لديهم وسائل أسرع مثل النت والموبايل تغنيهم عن كثرة التنقلات رغم أنني أري أن الاستسلام للموبايل والخضوع لاستقاء الأخبار من النت أفقد الصحافة الكثير ولكن هذه قصة أخري.. أنت لا تطرق باب المصدر الصحفي وتقول هل لديكم أخبار جديدة ولكن تتحدث معهم وينبغي أن يصبح بينك وبينهم قدر من الألفة حتي يبوحوا لك بما لديهم وما يفكرون فيه وما يحلمون به وقد تتوالد أفكار لمشروعات قادمة قد تتحقق أو لا تتحقق فإنها تظل في كل الأحيان أخبار صالحة للنشر.. ومن البديهي أننا طالما نتحدث عن البشر فقد نشعر بميل عاطفي وشخصي لإنسان نسعد بلقائه ليس لمجرد كونه مصدراً للأخبار.. وهكذا كانت أكثر لحظات سعادتي وأنا ذاهب إلي مسرحي العرائس والطليعة اللذين كانا متجاورين.. العرائس يديره «صلاح السقا» والطليعة «سمير العصفوري» بينهما جدار صغير جداً كنت أري أن بين «السقا» و «العصفوري» قدر من التناقض «صلاح» تلقائي ابن نكتة كثيراً ما يخرج عن الموضوع ليتحدث عن الحياة وما يجري فيها.. كانت جلسات «العصفوري» أيضاً خفيفة الظل ولكن لقاءه أشبه بمحاضرة علمية عن الفن والاتجاهات الحديثة والتجريب كان يعتقد أنه من خلال الطليعة يستطيع المسرح المصري لو توفرت بعض الإمكانيات أن يغزو العالم.. جلسات «السقا» نجد فيها كل شيء من الفن إلي أخبار السوق إلي السياسة حياة متكاملة تجدها في صحبة «السقا».. اسم «السقا» مع الزمن صار مرتبطاً عند الناس بعرض «الليلة الكبيرة» ولم تكن هذه المسرحية هي أفضل ما أخرج للمسرح كان لديه دائماً إحساس بأنها ليست هي الأفضل رغم أنها تجمع بين العمالقة «صلاح جاهين» و «سيد مكاوي» فإن النجاح الشعبي له سطوة.. قال لي الأستاذ «صلاح السقا»: إن «كمال الطويل» وليس «سيد مكاوي» كان هو المرشح الأول لتلحين «الليلة الكبيرة» إلا أنه لسبب غير معلوم رغم صداقته لصلاح جاهين تراجع وجاء «سيد مكاوي» ليلحن ويغني في العديد من المقاطع لتصبح هي دُرة مسرح العرائس وعلي مدي 50 عاماً وانتقلت إلي الأوبرا لتقدم أكثر من مرة برؤية حديثة وصنعت حالة من البهجة.. حتي العرائس مثل: «الريس حنتيرة» و «الراقصة» و «شجيع السيما» أبو شنب بريما صارت تباع للناس.. «السقا» قدمها وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره فإن هذا النوع من النجاح عندما يحدث يؤدي إلي حجب كل ما يأتي بعده.. في تاريخ عدد كبير من المبدعين مثل هذا النجاح الطاغي الذي يحجب الرؤية عن كل الإبداعات التالية، وكان «السقا» يري أن أوبريت مثل «حمار شهاب الدين» أو «صحصح وتابعه دندش» من حقهما مكانة أعلي عند الجمهور ولكن ظل الناس لا يعرفون سوي «الليلة الكبيرة» عندما علمت أن «صلاح السقا» يعاني في سنواته الأخيرة من قسوة المرض كنت أتذكر مقطع «حالاً بالاً سأصارع أسد إنما ايه متوحش وح اخلي وجهه شوارع تصقيفه يا ناس ما يصحش».. ورحل «صلاح السقا» ولم يستطع أن يقهر الوحش رحل صاحب «الليلة الكبيرة» بعد أن قدم أحلي ليلة في عمرنا.