مثيرة للجدل وناجحة وقادرة علي التأثير دوما وسط حالة ثقة مستمرة من قرائها، هكذا هي «النيويورك تايمز» الصحيفة الأمريكية الأكثر نجاحا، وهذا هو منهجها الذي تسير عليه طوال قرن ونصف القرن، منذ بدء صدور أول أعدادها في الثامن عشر من سبتمبر 1851 وحتي هذه اللحظات التي تحتفل فيها بمرور 159 عاما علي إنشائها. الخلطة الناجحة للصحيفة العريقة كان أهم أعمدتها السعي المستمر للوصول دائما إلي أقصي درجات الشفافية بينها وبين قرائها، مما جعلها بإجماع الآراء اللاعب الأكثر تأثيرا في تحريك مسار الرأي العام الأمريكي تجاه مختلف القضايا السياسية والاجتماعية طوال كل تلك السنوات. تأسست الصحيفة علي يد الصديقين الصحفي والسياسي «هنري جارفيس ريموند» ورجل المال «جورج جونز» تحت اسم «نيويورك ديلي تايمز» ثم تغير اسمها في 1857 للاسم الحالي. كان «ريموند» يعمل قبل إصدار الصحيفة نائباً لمحافظ ولاية نيويورك، بينما كان «جونز» قد بدأ حياته في الصبا فراشاً لمدير إحدي الصحف الإقليمية الأمريكية، وأعلن «ريموند» في البداية أن الصحيفة ستصدر يوميا عدا الأحد ليخلد هذا الإعلان انطلاقة صحافة عظيمة فشلت كل المعوقات في تهديد رسوخها واستمراريتها. لعب أيضا «ريموند» دورا كبيرا في قيام «وكالة أنباء الاسوشيتدبرس» التي بدأ الإعداد لإنشائها 1848 قبل الإنطلاقة الرسمية في 1856، وكان ريموند هو أول رئيس لها، وبذلك فإنه وضع حجر الأساس لواحدة من أهم ثلاث وكالات أنباء في العالم في القرن الحادي والعشرين. وجاءت الحرب الأهلية الأمريكية 1861 لتقود «النيويورك تايمز» لصدارة الساحة الإعلامية الأمريكية باعتبارها الصحيفة الرسمية التي تنشر تصريحات الحكومة الأمريكية المتعلقة بالحرب. ونجحت الصحيفة في استغلال الثورة التكنولوجية دائما بأفضل الطرق، فطورت نفسها ممتطية صهوة ثورة الاتصالات لترفع مستوي تقاريرها من حيث السرعة والدقة إلي عنان السماء، وتعرضت الصحيفة لكبوة مالية ضخمة كادت تقود لإفلاسها لينتشلها هذه المرة لاعب جديد هو الناشر «أدولف أوكس» الذي اشتري الجريدة بعد إعلان إفلاسها عام 1896 وكان معدل المبيعات اليومي للجريدة في أدني مستوياته برقم تسعة آلاف نسخة ليصنع ثورة صحفية كبيرة بدأت 1898 عندما انخفض سعر الجريدة لسنت واحد فقط لتصل المبيعات خلال عام واحد إلي 80 ألف نسخة يوميا ثم ترتفع لتكسر حاجز المائة ألف مع بدايات القرن العشرين. رحلة الصحيفة الناجحة كانت مثيرة للجدل، حيث أنها تتعرض دوماً لسيل من الانتقادات الضخمة، فسبق وأن اتهمها أعداؤهابعدم الوطنية والخيانة عام 1918، عندما نشرت مقالاً مؤيداً لاقتراح سلام غير مشروط مع النمسا في أثناء الحرب العالمية الأولي،كما احتكت الصحيفة الجريئة بالمحكمة الدستورية العليا عدداً من المرات وخاضت حروبا دائما لتوسيع هامش حريتها كان أشهرها مع المحكمة عام 1971 عندما نشرت مقتطفات من «أوراق البنتاجون» الشهيرة وهي وثائق حكومية أمريكية مسربة كشفت تورط الولاياتالمتحدة مبكرا في الحرب بفيتنام لتكسب «النيويورك تايمز» معركة حريتها بعد سماح القضاء لها بنشر الأوراق بعد أن كان قد أوقف صدورها لمدة 17 يوما متتالية. ولم تخجل الصحيفة الكبيرة من الاعتراف بأخطائها ولم تكابر فيما تتكشف حقائقه، فقد ظلت الصحيفة لسنوات طويلة تعارض وتسخر من أفكار خبير علم الصواريخ والفضاء «روبرت جودرد» وهي الأفكار التي كان يؤكد فيها علي قدرة الصواريخ علي الوصول للفضاء. ولكن بعد وصول أول مركبة فضاء أمريكية إلي سطح القمر في نهاية الستينيات أدركت الصحيفة أنها كانت في الجانب الخطأ فقامت بتصحيحه ونشرت اعتذار رسمياً لجدودو لقرائها علي صدر صفحتها الأولي. وسعت الصحيفة دائما في أسلوبها إلي الاعتدال والمرونة في تغطيتها، حيث يحاول القائمون علي إدارة الصحيفة إيصال الخبر والفكرة بدون تحيز دائما كما كشفت الصحيفة منذ عدة أعوام عن تصنيف للاتجاهات الفكرية والسياسية لصحفييها مثل انتماء «مارتين داود» و«ديفيد بروكس» لليسار الليبرالي و«جان ترني» لليمين المحافظين أو المثير للضجة «توماس فريدمان» الذي تم تصنيفه بالمعتدل .. ورغم كل هذا التنوع فإن الليبراليين يتهمونها دوما بالتحيز للمحافظين والتوجه للطبقتين الوسطي والغنية من المجتمع الأمريكي وإهمال الطبقات الفقيرة .. رحلة الجهاد الطويلة والسعي المستمر للوصول لاحترام قرائها جعل «النيويورك تايمز» بعد قرن ونصف القرن من البداية مؤسسة إعلامية عملاقة بحق فهي تمتلك الآن أكثر من عشرين صحيفة في أنحاء الولاياتالمتحدة بالإضافة لثمان محطات تليفزيونية محلية في الولايات المختلفة وإذاعتين للراديو في نيويورك كما تمتلك أسهما حاكمة في عدة شركات منها «فريق بوسطن ريد صاكس» و«فينوي بارك» و«قناة ديسكفري» وغيرها. حصدت «النيويورك تايمز» لقب المؤسسة الأفضل في الولاياتالمتحدة لأربع مرات متتالية طبقا لاستفتاء مجلة «بيزنس إثكس»، كما حصدت أكثر من 120 جائزة بوليتزر للصحافة تقديرا لخدماتها المتميزة .. ودفعت الصحيفة كثيرا ثمن مصداقيتها حبسا لصحفييها مثل مراسلتها «جوديثميللر» التي تعرضت لعقوبة الحبس بتهمة نشر أخبار وتقارير صحفية مفبركة للحرب في العراق، كما تواجه دائما العديد من القضايا من وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» التي كثيرا ما اتهمت الصحيفة بنشر وثائق تضر بالمصلحة العليا للولايات المتحدة. رحلة النيويورك تايمز العريقة والناجحة وهي تحتفل بعيد صدورها وتجبر محرك البحث الأشهر «جوجل» علي تغيير رموزه وشعاراته مشاركة لها في احتفالها تقدم درسا في كل يوم لكل عاشق حقيقي للصحافة التي لديها القدرة علي تحقيق صالح القارئ والباحثة دوما عن الحقيقة مع احترامها لتاريخها الطويل علي عكس ما فعل البعض في مصر ممن فشلوا أن يحترموا تاريخ وعراقة مؤسستهم فصنعوا الصور المفبركة لخدمة مصالح معينة فجعلوا من أنفسهم أضحوكة وسط وكالات الأنباء العالمية وضيعوا تاريخا عريقا تقدم «النيويورك تايمز» عرضا دائما في كيفية احترامه!