مفتتح: ذهبت إلي باريس وقد عزمت بكل صدق وإخلاص أن أعطي الرجل المحترم الملتصق بي منذ ولدت أجازة مؤقتة، وفشلت فشلا مبهرافاللهم لك الحمد في كل وقت ولك الحمد علي كل حال. 1- المفاجأة، السلفيون هناك اكثر من السلفيين هنا في الطالبية فيصل والمساحة هرم ومسجد العزيز بالله، سلفيون بالغو الرهافة والوسامة، لهم بشرة أوروبية ناصعة وشعر اصفر منسدل وابتسامة ملائكية، يحملون المسواك ويضعون عطورا إسلامية - تخيل أن أقطع كل هذه المسافة وأذهب لعاصمة العطور والأناقة لتقتحم أنفي نفسي عطور المسك - في باريس صليت التراويح مع مسلمي فرنسا من المهاجرين أو السكان الأصليين، الكتف في الكتف والقدم في القدم يستوي الصف ان شاء الله، الصفوف التي تركتها في مساجد القاهرة لحقت بي هناك لتبكي في أواخر سورة إبراهيم وفي آيات العذاب في سورة قاف، في باريس بحثت عن أماكن الانحراف ولم أعرف لماذا فشلت في العثور عليها، في باريس قابلت أول ما قابلت طبيب تخدير مصري يعمل في فرنسا، سلفي حتي النخاع، يستمع لمحمد حسان وأبو إسحاق الحويني - في باريس ! - يحتسب الأجر في أنه يخدر الفرنسيين- ونوم الظالم عبادة - ( عندما قال ذلك ظننته يمزح في البداية ثم اكتشفت أنه يعني ما يقول) ويأخذ إجازة طوال الشهر الكريم، زوجته منتقبة (وإن كانت تضطر كثيرا لخلع النقاب) ولغته الفرنسية متينة لكنها تحتفظ بلكنة بورسعيدية طريفة ويحفظ القانون الفرنسي عن ظهر قلب ويعرف كيف يأخذ حقه من هؤلاء الملاعين، صديقي الذي كان صمام أماني في بلد تنفجر بالجميلات يمثل الثمرة المثالية لالتقاء الشخصية المصرية بدين الإسلام ويمكن اعتباره أكبر دليل أن صلابة الاثنين (الدين والشخصية) 2- الحياة هناك مرهقة بما تعنيه كلمة مرهقة، في دار النشر التي كان بها برنامجي التدريبي العمل يبدأ في التاسعة وينتهي في الخامسة، ودون ساعة الغداء Dejheure التي هي في واقع الأمر 25 دقيقة أنت تعمل بكامل ذهنك وكامل إنتاجيتك طوال فترة العمل، هذا شيء لم أعتد عليه ولا حتي في حجرة الطواريء في قصر العيني حيث كانت تمر فترات من الراحة نذهب فيها لنأكل أو نثرثر ونمارس النميمة علي زملائنا من الأطباء في غرفة الفحص الأولي Triage، هناك فرق بين العمل الشاق وبين العمل الشاق المستمر، اشعر بذلت مجهودا في عشرة أيام يوازي ما بذلته طوال حياتي، كما أن جو العمل ليس ملائكيا مثل وجوههم، زميلتي «ستيفاني» في نفس المكتب لها ساقان جميلتان وعينان جميلتان وجسد جميل وروح ليست كذلك، أعاني من هواجس ملحة وموجعة بسببها - أحرص في كتمانها عن صديقي الطبيب المصري- ثم أكتشف بعد اعتيادي علي اللغة أنها تتحدث بلهجة باريسية سوقية ( يصعب علي المبتديء في اللغة تمييز ذلك لأنك بالعافية تريد فهم معني ما يقال )تفاجئني ستيفاني أنهم هناك يشتكون مثلنا، ويضربون أسافين ومهاميز مثلنا، ويتلاعبون لتتحمل أنت العمل كما نفعل، تفاجئني كما يفاجئني غيرها أن هناك رشاوي وفساد وكل شيء، في الحقيقة لم أعد أريد أن أفهم لماذا هم متقدمون ونحن لا ولكني أريد أن أتأكد من هذه البديهية التي نستقر عليها والتي يراودني الآن فيها ألف شك. 3- الاكتشافان الأكثر سخافة في هذه الرحلة، الأول أن فرنسيتي ليست كما ينبغي وليست بالقوة التي كنت أظنها عليها، والثاني أن المثقفين هم المثقفون في كل مكان، لا فرق كبير بين الحي اللاتيني أو زهرة البستان، مجموعة من العاطلين والمنحلين الذين يفهمون أي شيء ويثرثرون طوال الوقت، هل هناك فرق بين شخص مدعي ينفخ دخان الشيشة في استياء وهو يؤكد «نزار قباني مجرد أكذوبة تجارية» وبين الذي جلست معه علي أحد المقاهي ليشتم كل الروائيين الفرنسيين الذين أحبهم - آميلي نوثومب وفيليب كلوديل وفردريك بيدييه وغيرهم - مؤكدا ان الكتابة الحقيقية مغيبة وأن هناك مؤامرة لإخفائها. مختتم: في باريس لم أمارس الجنس ولادخلت نوادي التعري التي كان بيني وبينها عرض الشارع، في باريس صليت التراويح وصليت العيد وصليت الفجر حاضرا أكثر من مرة، في باريس اكتشفت أن الحياة ليست براقة كما كنت أظن، ليست ماجنة كما كنت أحلم، ليست مريحة كما ينبغي، وحال عودتي كنت بين مقام الحيرة ومقام التفكر.. أن الحجاب بيننا وبين الحقيقة هو الموت وكل محاولة للفهم تظل في النهاية مجرد محاولة لا أكثر ولا أقل.