منذ عشرين سنة إلا قليلا قال لي صعيدي مسن، جاء إلي جريدة «الشعب» المغدورة في رهط من بني عمومته: علي الطلاق أنا ما باصلي إلا الجمعة.. ده إذا صليتها! لم يكن الرجل يتباهي بأنه لا يصلي، ولا كان يشهدني علي طلاق السيدة حرمه، لكنه كان يوضح أن الرفض الشعبي الهائل للنظام ليس مقصورا علي أتباع جماعات العنف وأنصارها فقط، وهو يردف قائلا: مع ذلك أي حاجة أعرف أنها يمكن أن تؤذي الحكومة ح أعملها، إن شا الله حتي أولع في نفسي. وحين سألته عن السبب قال: الحكومة في الصعيد داست علي الحاجتين اللي ما نسكتوش عليهم.. الدم والعرض! وعما يقصده بالعرض قال: حرمة البيوت.. البيوت اللي بيدخلوها ويفتشوها صبح وليل دي فيها عرضنا، فيها حريمنا اللي مانقبلوش إن حد يشوفهم ولا حد يهينهم. هذا هو الصعيد، وتلك شريعته التي أنبه إلي خطورة «التمادي» في تجاهلها. الشريعة التي تجاهلها النظام حين تصور أن اغتصاب طفلة فرشوط يمكن أن يمر مرور الكرام، أو أن محاكمة المغتصب يمكن أن تسير متراخية. تجاهلها حين تصور أن التراخي كفيل بأن يهدئ النفوس، وأن يفصل موضوع الواقعة «الاغتصاب» عن شخوصها (بائع مسيحي متجول وطفلة مسلمة) ذلك التصور الذي أعتقد أن الجميع الآن يعرف أنه كان تصورا خاطئا، بل كارثيا! النظام ومنذ البداية تعامل مع المسألة بشكل طائفي، وأنا هنا لا أفترض ولا أضرب الأمثلة، بل أدعوكم إلي مقارنة التحفظ الشديد والبطء المقصود والتكتم علي شخص الفاعل في واقعة فرشوط، مقارنة بالفضيحة العلنية ومنذ اللحظة الأولي التي تم التعامل بها مع ذلك الشاب «القليوبي» سائق التوك توك، الذي اتهم بأنه اغتصب فتاة، ما أدي إلي حملها سفاحا، قبل أن يثبت تحليل ال«DNA » براءته. لقد تابعت الصحف المحاكمة خطوة بخطوة، ونشرت عشرات الصور للشاب وأسرته، وتحولت المسألة إلي تشهير كامل بالأسرة، التي ظهرت علي أكثر من محطة تليفزيونية تحاول من دون جدوي الدفاع عن ابنها، الذي أثبت القضاء براءته في نهاية المطاف. هذا ما حدث في قضية سائق التوك توك، أما قضية بائع فرشوط المتجول فقد ضربت حولها أسوار السرية، وتعامل الأمن بغلظة وقسوة الأهالي الذين حاولوا متابعة سير المحاكمة. والمؤكد أن اختلاف ديانة الجاني والضحية هو ما دفع النظام إلي التعامل بشكل مختلف، ما يعني أن النظام تعامل مع الواقعة علي نحو طائفي، متعمدا الضغط منذ البداية، ما جعل الرد يأتي في إطار العنف الطائفي هو الآخر، وعلي نحو اختلط فيه الثأر بالسياسة.. وبالدين أيضا. وبمناسبة «الثأر» يجب توضيح أن الثأر، وإن كانت الفردية تغلب عليه، لكنه يكون جماعيا أيضا، وآخر أمثلة «الثأر الجماعي» ما وقع في العام 2002، حين نصبت إحدي العائلات كمينا علي طريق زراعي بين سوهاج وقرية بيت علام، وقتلت 22 شخصا من عائلة أخري ثأرا لمقتل شخص واحد منها. أيضا فإن «اختيار التوقيت» جزء من ترتيبات الثأر، التي تهدف إلي أن يتجرع الطرف الآخر أكبر قدر من الألم، ولهذا يفضل صاحب الثأر اختيار أيام الأعياد والمناسبات السعيدة ليكون قلبها مأتما أشد ألما، فلا يقتل العريس مثلا إلا في ليلة عرسه، ولا الطالب إلا في يوم تخرجه.. وهلم جرا. وإذا فإن استبعاد عنصر «الثأر» من المشهد بالكامل ليس صحيحا، لكن قصر المشهد علي الثأر فقط خطأ أيضا، إذ هناك عناصر أخري، منها الاحتقان المتصاعد، الذي تمثل فصله الأخير في تصاعد حملات توزيع منشورات مسيحية مجهولة المؤلف تتطاول علي القرآن، منها منشور «مستعدون للمجاوبة»، الذي يقول عنه «د. محمد عمارة» إن أجهزة الدولة المختصة قامت بتحويله إلي «مجمع البحوث الإسلامية» بالأزهر الشريف، طالبة الإفادة عن رأي الإسلام فيه. وأضاف «د.عمارة» أن مجمع البحوث الإسلامية، وبحكم عضويته فيه، طلب منه فحص المنشور وتقديم تقرير علمي عنه، فكتب التقرير الذي اعتمده المجمع في جلسته المنعقدة بتاريخ 25 من يونيو سنة 2009، ووافق بالإجماع علي التوصية بنشره ملحقاً بمجلة «الأزهر». هذا ما حدث، وحدث أيضا أن الكنيسة احتجت علي محتوي كتاب «د. عمارة» فقرر شيخ الأزهر سحبه من الأسواق. وهو قرار سواء اتفقت معه أم اختلفت يأتي في إطار الميل إلي التهدئة وعدم التصعيد، لكن الأسبوع نفسه الذي صدر فيه قرار شيخ الأزهر بسحب الكتاب شهد رد فعل عكسياً من «الأنبا شنودة» وذلك حين سئل في حوار تليفزيوني عن تطاول «زكريا بطرس» علي الإسلام، فذكر أنه لن يطالبه بالتوقف مادام هناك مسلمون يتطاولون علي المسيحية!! وهو رد لا يعني التصعيد مقابل تهدئة الأزهر فحسب، لكنه يشير أيضا إلي أن الكنيسة ترضي عن أو علي الأقل لا تستهجن ما يقوله «زكريا بطرس»! وهذا كله مناخ طائفي بامتياز، مناخ لن يصل بنا إلي جريمة «نجع حمادي» فحسب، لكنه وهو الأهم سيواصل مسيرته مادامت عوامل استمراره قائمة. تلك هي المشكلة، لكن ما الحل؟ السؤال يبدو صعبا، وزعم امتلاك إجابة شافية له محض سذاجة، لكن «الاجتهاد» يظل ممكنا دائما، وعلي طريق الاجتهاد أعتقد أن علنية محاكمة المتهمين بارتكاب جريمة نجع حمادي مسألة مهمة، وخطوة مهمة علي طريق الإصلاح، يجب أن يتاح للإعلام متابعة المحاكمة علي النحو الذي لا يترك مجالا للتلاعب والتلفيق من ناحية، ولا للشكوك من ناحية أخري.