لو كنا في بلد آخر كنت بالتأكيد وفورًا سأرفع قضية ضد وزارة الكهرباء والسبب هو القطع المستمر للتيار، أما الحيثيات فكثيرة ومؤلمة، في الوقت ذاته الحيثيات مختلفة أولها: الارتباك الذي يسببه انقطاع الكهرباء حيث تتوقف الحياة اليومية بل وتشل تمامًا، يعتقد الكثيرون أن الكهرباء لها علاقة بالطهي ومشاهدة التليفزيون فقط، ويظنون أيضا في نفوسهم أن المواطن يستحق ما يحدث له ليتعلم «ترشيد» الكهرباء، من حق المواطن أن يغضب بالطبع من أجل تحضير الإفطار ومن أجل حرمانه من مشاهدة التليفزيون «حتي لو اختلفنا علي المبدأ». إلا أن انقطاع الكهرباء يتسبب في الكثير من الخسائر الأخري التي يبدو أنها لا تخطر علي بال أصحاب «الترشيد». بديهيًا يتسبب انقطاع التيار في توقف عمل كل الأجهزة التي تحتاج إلي الكهرباء ومنها الثلاجات التي إما تعطلت تمامًا لانقطاع التيار بشكل مفاجئ وعودته مباشرة بنفس الشكل عدة مرات، أو أن كل الأكل المحفوظ بداخلها قد أصابه العط، لا يتفق ذلك مع فكرة الترشيد علي ما أعتقد إلا إذا كانت الحكومة تقصد الترشيد علي نفسها فقط. حدث نفس العطل للمراوح ولأجهزة التكييف وأجهزة الإنترنت. وبالتأكيد أصاب الشلل والعطل الكثير من المستوصفات والعيادات الصغيرة، ناهيك عن ثلاجات محال البقالة، والقائمة طويلة لا نهاية لها.. ما معني الترشيد إذًا؟ والحقيقة أنه لا غضاضة في المبدأ مطلقًا «بالرغم من مشروعية السؤال عن الأسباب التي أدت إلي العجز عن تحمل كل هذه الطاقة» إلا أن الترشيد الذي تعتقد الحكومة أنه ترشيد ليس إلا شكلاً عشوائيًا من قطع التيار هنا وهناك بشكل غير منظم. من الممكن الإعلان أن التيار سيقطع عن المنطقة الفلانية في ساعة محددة «وهو ليس مبررًا أيضا» كما يحدث في لبنان علي سبيل المثال، فكل أهل لبنان يعلمون أن التيار الكهربائي الآن يستمر 23 ساعة فقط ومنذ عامين كان يستمر 21 ساعة، لكن الانقطاع كان في أوقات محددة يعلمها الجميع ولا تتغير «لبنان ذلك البلد الصغير الذي عاني ولا يزال يعاني من صراعات طائفية داخلية وضغوط خارجية وتهديدات مستمرة».. في حيثيات الدعوي المرفوعة لابد من المطالبة بتعويض هذه الخسائر. لو كنا في بلد آخر وكان بالإمكان رفع مثل هذه الدعوي كان سيتم التعويض فورًا، ولو كنا في بلد آخر ما كان يمكن تصدير الغاز لإسرائيل في حين أن المواطن في احتياج شديد له، ولو كنا في بلد آخر ما كان من الممكن أن تخرج مظاهرة بالشموع للاعتراض علي الانقطاع المستمر للكهرباء دون أن تحرك الحكومة ساكنًا، ولا ينتج عن المظاهرة سوي بضع أخبار وصور في الصحف. علي الناس أن يتحملوا شدة حرارة الطقس وانقطاع الكهرباء في آن واحد، وعليهم ألا يعترضوا علي تصدير الغاز، وعليهم أخيرًا أن يتفهموا ما تفعله الحكومة من قطع التيار لأن الترشيد واجب وضروري حتي لو كان يمارس بشكل يضر مصالحهم ويضرب الدخل المادي، مصلحة البلد فوق كل شيء! لو كنا في بلد آخر كان انقطاع التيار الكهربائي بهذا الشكل العشوائي المفاجئ سيتسبب في أزمة للحكومة وإحراج كبير لها، لكن في بلادنا لا أحد يشعر بالحرج، ولا أحد يعترف بالضرر الذي يصيب المواطن. لو كنا في بلد آخر ... لكننا هنا ولسنا هناك.