كنت سأرفع دعوي مستعجلة ضد ماسبيرو وكنت سأكسبها فورًا، لكن حيثياتي ليست ما هو متوقع وسائد، لن تكون دعوي ضد ممثلة ارتدت باروكة مكان الحجاب أو فستانًا فاضحًا أو تشويه شخصية حسن البنا أو الإساءة لمهنة التمريض....إلخ من كم القضايا المرفوعة بالفعل الآن، ستكون دعوتي ضد المنطق الذي ينتقي به التليفزيون ما يذيعه من برامج أثناء شهر رمضان، والمنطق الذي يستبعد به برامج أخري، المشكلة الوحيدة أن المنطق غير معروف. ترتكز حيثيات الدعوي علي غياب الرؤية وسيادة الضجيج المهول والصخب الذي لا يمكن وصفه سوي بالهزل. تجلس أمام شاشة التليفزيون لتشاهد كمًا مكثفًا من البرامج الدينية التي يتسم الكثير منها بالسلاسة ويقدم فيها المتحدث كلاما معقولاً ملائمًا لمستويات التلقي المختلفة، ولا يدهشني في هذه الجرعة الدينية سوي الإصرار علي أن القيم الإسلامية لابد أن تسود في رمضان فقط! هناك أيضًا قليل من البرامج الحوارية التي لا تنجح في جذب الانتباه إلا في رمضان، ثم يلي ذلك مباشرة كم من السخف والابتذال والفجاجة التي تصيبك بالدهشة من غاية القائمين علي البث التليفزيوني، فتجد مثلاً امرأة في برنامج يوحي لك بأن هناك الكثير من التصفيق بمجرد التفوه بالتحية، وكلما فتحت فمها ينطلق التصفيق، إلي أن قالت للجمهور المتهلل المستبشر: «لنتخيل اليوم أن إليسا وهيفاء وهبي تتصارعان علي رجل»، وهو الخبر الذي استدعي صراخا من الجمهور بالإضافة إلي التصفيق! اكتفيت بما سمعته ومن وقتها وأنا أتساءل عن معني مثل هذا الشيء سواء في رمضان أو غير رمضان، إلا أن المشكلة أن مثل هذه الأعاجيب لا تظهر إلا في هذا الشهر، أما برامج المقالب والحيل والاستعباط فقد ازدادت بشكل غير مسبوق اعتقادًا من القائمين عليها أن خفة الدم لا تتأتي إلا بالمزاح الثقيل الهزلي. أما المسلسلات فحدث ولا حرج ولا يحتاج القارئ إلي أي معلومات عنها إذ إن كثرتها (ولا ينافسها في ذلك سوي الإعلانات) بالفعل تُذهب العقل. لو كنا في بلد آخر كنت سأرفع تلك الدعوي وكنت سأكسبها ولن تكون حيثياتي مبنية علي أن شهر رمضان هو للتعبد وللتأمل الروحاني، فهذا القول يعني أنه من الجائز بث كل ذلك في غير هذا الشهر، بل إن حيثياتي مبنية علي فكرة أن كل ما يبث من الفجر إلي الفجر الذي يليه يدمر العقل بخطوات حثيثة منتظمة، ويفسد الذوق والذائقة، ويخرب القدرة علي إصدار أحكام صائبة متعقلة، ويهدر الوقت، ويلهي المتفرج عن كل ما حوله سوي متابعة البث المستمر، مما يحوله في نهاية رمضان إلي آلة تعيد اجترار الذكريات التليفزيونية. كيف تتواءم دعوات الإصلاح والبناء والترشيد «خاصة الكهربائي» مع ذلك التخبط التليفزيوني غير المفهوم. في الدعوي التي سأرفعها لو كنا في بلد آخر سأتهم كل مسئول عن ذلك البث التليفزيوني باستغلال احتياج المواطن لأي شكل من أشكال الترفيه، الكثير بالطبع يمكنهم اختيار تجاهل وجود التليفزيون من الأساس إلا أن الأكثرية والأغلبية لن ترفض الشكل الوحيد للترف المتاح لها بشكل شبه مجاني وغير مشروط. ألا يستحق الأمر في النهاية السعي لتوفير أشكال أخري من الترفيه لا تشترط تدمير العقول كأحد الآثار الجانبية؟