كنت مديراً لمتحف محمود خليل وكانت لوحة «الخشخاش» في غرفة مستقلة واكتشفت أن اللوحة والغرفة والمتحف وأنا في خطر نجل مسئول كبير تسبب في سرقة اللوحة أول مرة ووضعوا المسئولية علي عسكري بسيط فقال: «مين فات نوح يا بيه»؟! متحف محمود خليل في سنة 1998 رشحني الدكتور أحمد نوار وكيل وزارة الثقافة ورئيس قطاع الفنون سابقاً لأتولي إدارة متحف محمد محمود خليل بعد أن تم تجديده في بداية التسعينيات بتكلفة بلغت 20 مليون جنيه. وكفنان تشكيلي تحمست للمهمة وحضرت من لندن بعد غياب عن أرض الوطن لمدة خمسة وعشرين عاماً. تسلمت العمل بعد موافقة الفنان فاروق حسني وكنت سعيداً بالتطوير الذي حدث للمتحف بعد أن استعادته الوزارة من رئاسة الجمهورية، فالمتحف موجود بجوار منزل الرئيس الراحل أنور السادات وتم ضمه إلي منزله، ونقلت محتوياته إلي قصر الأمير عمرو إبراهيم في الجزيرة الزمالك وكانت هناك ترتيبات علي أعلي مستوي لحماية اللوحات.. وجميع الوسائل الحديثة من إنذار لكل حجرة وبوابات إلكترونية ونظم إلكترونية للحفاظ علي اللوحات وعرضها بطرق فنية سليمة. وكانت هناك حجرة مخصصة للوحة «زهرة الخشخاش» للفنان فان جوخ وأخري للوحة «الحياة والموت» للفنان بول جوجان، وهما من فناني المدرسة التأثرية في منتصف القرن ال 19 وكانا زميلين وصديقين. وعندما تعايشت مع المكان وبعد عام تقريباً من تسلمي العمل، لاحظت واكتشفت أن أجهزة الإنذار لا تعمل وأحياناً أو أكثر من مرة وجدت أن البوابات الإلكترونية لا تعمل، وأن اللوحات تصلها أشعة الشمس بشكل مباشر من خلال بعض النوافذ وفي ذلك خطورة علي ألوان ومكونات اللوحة واحتمالية تعرضها للتلف. واكتشفت أن أجهزة التكييف مطلوب تغيير الفلاتر لها لأنها غير صالحة بدأت أشعر أن المتحف في مهب الريح، فقمت بتبليغ رؤسائي المباشرين بمذكرات رسمية نوهت فيها بالأخطار التي تحيط بالكنوز التي يحتويها المتحف، خاصة أن لوحة «زهرة الخشخاش» كانت قد تعرضت للسرقة عام 1977. وأرسلت هذه المذكرات إلي محسن شعلان، وكان الرجل الثاني في قطاع الفنون التشكيلية ومن قبله المرحوم حمدي شحاتة، والدكتور أحمد نوار وكيل الوزارة وقتها ورئيس القطاع. لم أجد استجابة منهما وقالا إنه لا توجد مخصصات مالية كافية لصيانة المتحف وحمايته من السرقة. وكان هناك أمر غريب، فإذا كانت الدولة صرفت 20 مليون جنيه لتطوير المتحف عام 1994 ألا تستطيع توفير مليوني جنيه تضعهما وديعة يصرف من ريعها علي صيانة المتحف وحماية الثروات الفنية التي تقدر ب 8 مليارات جنيه؟! وكررت الشكوي من خطر تعرض اللوحات للسرقة أو الأذي بسبب عطل الأجهزة، أخذت الأمر بجدية فقد اكتشفت أنني شخصياً في خطر، وليس المتحف فقط، فلو حدث أي شيء سأكون أنا كبش الفداء وسيحملونني المسئولية، وكنت أسأل نفسي: ماذا أفعل لحل هذه المشكلة؟! كنت قد شكلت جميعة لأصدقاء المتحف تقوم بنشاطات ثقافية وندوات، ومن محبي المتحف كان الدكتور إبراهيم فوزي وزير الصناعة السابق وهو صديق قديم وعزيز تعرفت عليه عندما كنت أدرس في لندن وكان مستشاراً ثقافياً وله العديد من المؤلفات والكتب التي لها علاقة بالفنون المصرية القديمة، وكان من ضمن محبي متحف محمد محمود خليل، ولما علم بالأمر والأزمة التي أعانيها أخذني للقاء الفنان فاروق حسني وزير الثقافة لعرض هذا الأمر الخطير عليه، وفعلاً استقبلنا الوزير وشرحت له أنني أرسلت أكثر من مذكرة لرؤساء قطاع الفنون التشكيلية، وطلبت من الوزير أن أقدم استقالتي حتي لا أتحمل المسئولية، فالمتحف في مهب الريح فرفض الوزير استقالتي وناقش معنا كل شيء وأبدي اهتماماً واضحاً، وقرر تشكيل لجنة لتحري ما ورد في مذكرتي وكان ذلك عام 2001، واستبشرت خيراً أن المشكلة سوف تحل. وللأسف.. المشكلة زادت ولم تحل وتعطلت معظم أجهزة إنذار المتحف، فاللجنة تشكلت من موظفين كبار ولم أكن عضواً بها، فأخذت بأقوال الموظفين الكبار الذين همهم الوحيد إثبات أن كل شيء تمام يا فندم.. وأصبحت أنا المشاغب. ولم يحدث أي شيء.. ظلت الأجهزة معطلة والشمس تضرب اللوحات، والبوابات الإلكترونية لا تعمل والتكييفات غير صالحة. وعندما علم رئيس قطاع الفنون أنني ذهبت للوزير لعرض الأمر عليه اتصل به وقال: أنت تشكونا للوزير؟! قالها لي صديقي الفنان نوار وعرفني أن المصلحة العامة تتطلب ذلك وقال لي: إن الوزير يعلم بذلك ولا يوجد ميزانية كافية للصرف علي صيانة المتحف، فطلبت من نوار أن أقدم استقالتي أو نقلي إلي متحف آخر، وتم نقلي إلي متحف طه حسين. وفي متحف الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي اكتشفت أنه أسوأ حالا من متحف محمد محمود خليل، ولكن ليست به لوحات وكنوز ولا يحتاج لحماية. وعندما تسلم محسن شعلان رئاسة القطاع قرر إلغاء عقدي فوراً وشعرت براحة عظيمة وكأن كابوساً راح من علي صدري، كان زماني وراء الشمس. وإنني كنت أتحاشي في إدارة المتحف الإهمال الذي هو للأسف أهم سمة في جميع متاحف الدولة الفنية منها والأثرية، علي عكس المتاحف التي تعايشت معها في لندن وباريس لمدة خمسة وعشرين عاماً. وأضرب علي ذلك أمثالاً كثيرة منها أتذكر عام 1977حين سرقت لوحة الفنان «فان جوخ»، وقيل وقتها إن الجريمة تورط فيها ابن أحد الكبار وسهل حصول أحد أغنياء الكويت عليها، وأعيدت اللوحة وتم اتكتم الأمر، هذا ما يقال والله أعلم بالحقيقة، والمعروف أن عملية نقل محتويات المتحف بعدما طلب الرئيس السادات ضم القصر لرئاسة الجمهورية، جرت بطريقة عشوائية، ولذلك اكتشفوا أنه تم تبديل كل أطقم الصيني والفضيات والنجف التي يحتويها متحف محمد محمود خليل، وهي مصنوعة في باريس، بأشياء أخري مزيفة. وبعد التحري تبين أن موظفاً كبيراً بالمتحف وقتها، هو اللص الذي قام بتبديل القطع الأصلية وأجبر علي إعادتها. ولأنني كنت مهتماً بالمتحف وقرأت ملفاته وأوراقه وكنت أتعاون مع الكاتب الراحل كامل زهيري، وهو من أعضاء جميعة أصدقاء المتحف، لتأليف كتاب عن تاريخ محمد محمود خليل ومتحفه. وعرفت فيما بعد أن السرقة الأولي للوحة كان سببها الإهمال في عرض اللوحات، فقد كان الإطار الحديدي للنافذة مكسوراً، مما سهل علي اللص عملية السرقة، وتمت مساءلة مدير المتحف وقتها لكنه كشف عن مذكرة رسمية تقدم بها للشكوي من أن الإطار الحديدي مكسور ويطلب إصلاحه ولم يهتم أحد بالأمر، وبذلك نجا المدير من التهمة وحملوا المسئولية لعسكري أمن مسكين، وقدم للمحاكمة، وسأله القاضي: أين كنت عندما سرقت لوحة الفنان «فان جوخ»؟ فقال العسكري: من هو فات نوح يعني «فان جوخ»؟ وسأل العسكري القاضي: لو دفعت ثمن اللوحة، هل تخلي سبيلي؟.. أنا مستعد أدفع 3 جنيهات كل شهر من دخلي لتسديد ثمن اللوحة!.. فاطلق القاضي سراح الرجل الذي لا يعرف أن ثمن اللوحة يقدر بعشرات الملايين. وكل هذا موجود في ملفات المتحف.. مثل آخر للإهمال، أتذكر أنني في عام 1999، كنت عضواً في لجنة شكلها قطاع الفنون التشكيلية والمتاحف لاستلام متحف الإسكندرية الذي تقرر نقل تبعيته من محافظة الإسكندرية إلي وزارة الثقافة، ذهبت مع اللجنة لاستلام مقتنيات المتحف من لوحات فنية وغيرها، وأثناء ذلك رأيت أمينة المتحف تفترش لوحة الفنان الإسكندري المتميز «سيف وانلي» كفرشة تأكل عليها فول وطعمية. وهذا بخلاف تخزين باقي اللوحات بطريقة غاية في البدائية.. وهذه ملامح بسيطة جداً من مظاهر الإهمال وإهدار الثروة الفنية في متاحفنا. وهناك أسباب كثيرة وراء ذلك، منها الإهمال وضعف النفوس وأيضاً انعدام الثقافة المهنية، وأن معظم أمناء وأمينات المتاحف غير مؤهلين علمياً وثقافياً ولا يتقاضون رواتب تتناسب مع مسئولياتهم الكبيرة. فوزارة الثقافة التي اهتمت بتطوير مباني ومراقبة أجهزة المتاحف تجاهلت أهم عنصر وهو العنصر البشري، فلم تهتم بالبشر كما اهتمت بالحجر! وضيعت ميزانياتها في الحفلات البارخة والمهرجانات المفتعلة وبدلات السفر ومكافآت كبار الموظفين فلم يتبق من المال ما يكفي لإعداد قيادات جديرة بمسئولية وأمانة وإدارة هذه المتاحف وكان يجب علي الوزارة أن ترعي هؤلاء الأمناء حتي يؤدوا الأمانة علي خير وجه. فهذا النوع من النشاطات الثقافية، ليس مهمة الحكومات فقط، وهنا يأتي دور رجال الأعمال والجمعيات الأهلية والمجتمع المدني والمثقفين عموماً، وهو دور عظيم لرعاية الفنون والمنتج الثقافي، نراه كل يوم في بلاد أوروبا وأمريكا وهو ما كان قائماً في مصر من قبل. محمد محمود خليل كان ثرياً مصرياً وطنياً، وكذلك طلعت حرب وغيرهما.. من الذي أنشأ الجامعة المصرية؟ ومن الذي أنشأ كلية الفنون الجميلة، من الذي وهب قصره وتحفه النادرة لتكون منارة ثقافية فنية رفعية لكل الشعب المصري؟ ولنضرب مثلاً بقضية إقامة تمثال نهضة مصر للفنان محمود مختار، وهو التمثال الذي أصبح رمزاً مصرياً أصيلاً ودعمه مادياً رجال أعمال وطنيون مصريون وحملة اكتتاب شعبي شارك فيها مواطنون مصريون بسطاء. وللأسف لا مجال للمقارنة بين رجال الأعمال اليوم والأمس بخلاف نجيب ساويرس الذي يقوم بدور تنويري في مجال الثقافة ورعاية الفنون وهناك قلة من رجال الأعمال الآخرين يشبهونه، وخلال عملي مديراً للمتحف لاحظت اهتمام السيدة حرم الرئيس ودورها الراعي للفنون عموماً، وخصوصاً حبها الشديد لمتحف محمد محمود خليل، لذا كانت دائماً تدعو الملوك والرؤساء لزيارته وأحياناً كانت تحضر معهم. سالم صلاح مدير متحف محمد محمود خليل سابقاً وفنان تشكيلي