لم يكن مفاجئًا أن تهدد دول عربية بوقف استخدام خدمات أجهزة الهاتف المحمول من نوعية بلاك بيري، فمعظم النظم العربية تخشي منذ زمن بعيد التأثيرات الخطيرة لثورة الاتصالات التي تزداد توغلاً وشراسة يومًا بعد يوم وتصيب أجهزة الرقابة والتنصت في هذه الدول بالعجز والحيرة فتعمد إلي الحل المعتمد والوسيلة الأيسر وهي المنع والحظر بحجة قديمة وبليدة وهي أن هذه الأجهزة الذكية تعرض الأمن القومي والمعايير الاجتماعية للخطر. هكذا فعلت دولة الإمارات بعد أيام من اكتشافها تواصل مجموعات من الإماراتيين عبر أجهزة بلاك بيري للاحتجاج في مسألة تخص أسعار الوقود، وتبعتها السعودية بدعوي أن خدمات هذه الأجهزة لم تمتثل للمتطلبات التنظيمية التي حددتها الدولة ومن ثم فهي تهدد نظمها الأمنية وتسهل علي الإرهابيين التنسيق والتواصل دون أن تتمكن السلطات من ملاحقتهم ومراقبتهم، لكنه وبرغم مشروعية هذه الأسئلة التي تحتاج إلي برهان، فإن الهجمات الإرهابية التي عانت منها السعودية محليًا علي مدي العقد الماضي تمت في معظمها قبل ظهور أجهزة البلاك بيري، كما أن الهجمات التي تعرضت لها الولاياتالمتحدة وإسبانيا تمت أيضا قبل انطلاق خدمات بلاك بيري، فضلا عن أن الإرهابيين لن يعدموا وسيلة للتنسيق بعيدًا عن خدمات الرسائل النصية والمسينجر والبريد الإلكتروني المشفرة التي يوفرها البلاك بيري. وبينما لا تزال السلطات في مصر ملتزمة الصمت مكتفية بمراقبة المعارك التي تخوضها السعودية والإمارات في هذا الصدد، فإنه ليس من المستبعد أن تقتدي حكومتنا بدول الخليج خصوصًَا أن المسألة تتعلق وبالدرجة الأولي بصعوبة الاطلاع علي الرسائل التي ترسل من هذه الأجهزة أو فك شفراتها القوية مما يمنع عن السلطات الأمنية التعرف علي فحوي المراسلات والمواقع التي يزورها مستخدمو البلاك بيري، في حين تعتبره الشركة المصنعة للجهاز «ريسيرش إن موشن» الكائنة في كندا، ميزة لحماية البيانات الشخصية لمستخدمي أجهزتها، إذ أشارت في بيان رسمي لها إلي أن استخدامها للشفرات القوية التي يصعب حلها هو شرط إلزامي وقانون يلتزم به جميع مقدمي الخدمات التكنولوجية، سواء في مجال الاتصالات أو داخل شبكة الإنترنت للحفاظ علي خصوصيات الأفراد والشركات والحكومات، وهو أمر لا تستوعبه السلطات في عالمنا العربي لأنها دأبت علي فرض سيطرتها وسطوتها علي مجتمعاتها شبه المنغلقة وشعوبها المحافظة الراغبة بقوة في الخروج من القمقم والانطلاق نحو فضاءات جديدة من الحرية، بعدما بات جليًا مدي انتشار أجهزة البلاك بيري أو التوت البري في أوساط الشباب بسرعة غير مسبوقة وأصبحت وسيلتهم الأسرع للتواصل والدردشة ونقل الأخبار والصور دون حسيب أو رقيب. المعركة مع بلاك بيري ذات وجهين، أحدهما قانوني يستند لما تدعيه بعض الدول في تأمين أراضيها وأهمية توافق الخدمات المقدمة مع التشريعات السارية في البلاد، والآخر حقوقي يتعلق بمشروعية الحصول علي المعلومات وحرية الاستخدام دون عقبات، وبين هذا وذاك تدور رحي المعركة التي تجاوزت الخلاف القانوني لتصل إلي محاولة البحث عن حلول دبلوماسية ترضي الطرفين، بينما تقول الشركة المنتجة إنها لن ترضخ لمطالب دول تريد منع التشفير لأن ذلك ببساطة يعني تهديد الأفراد والشركات والمصارف والإنترنت بل إنه سيجعل كل خصوصية مفضوحة لدي أجهزة قد تسيء استخدامها. غير أن الحقيقة التي يجب أن تواجهها النظم الحاكمة في أوطاننا العربية هي إلي متي ستظل علي يقين بقدرتها في التحكم بكل أمور حياة مواطنيها رغم كل القفزات التكنولوجية التي نشهدها الآن وسنراها أوضح مستقبلاً، وكيف ستتمكن هذه النظم من مواجهة الثورات العلمية المتلاحقة بينما هي واقعيًا تكرس سياسة التجهيل والقمع وتسمح عن فساد أو عن طيب خاطر بوجود أجهزة اتصالات وأسلحة غير مرخصة داخل أراضيها مما يشكل تهديدا أبشع لأمنها وأمن مواطنيها. يبقي هناك تساؤل آخر وهو لماذا استشعرت الإمارات والسعودية ومن قبلهما إندونيسيا والهند هذا الخطر في حين تستخدم 140 دولة حول العالم خدمات البلاك بري دون ضجر؟. صحيح أن فرنساوالولاياتالمتحدة أبديتا ملاحظات حول أجهزة بلاك بيري، لكن الحقيقة تبقي في إنهما لم تمنعا خدماتها بل إن ستة أشخاص من بين كل عشرة يملكون هواتف محمولة في الولاياتالمتحدة يستخدمون أجهزة بلاك بيري، كما أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه أصر علي استخدامها بسبب سهولتها وسرعتها، رغم التحذيرات والتوصيات الاستخباراتية باستبدالها بأخري. المؤكد منطقيًا أن من يريد العبث بأمن دولة ما سيلجأ لطرق تشفير خاصة تضمن سرية بياناته وحمايتها، وكيف له أن يضمن عدم تعاون الأجهزة الرقابية والمخابراتية في بلده مع الشركة المنتجة لبلاك بيري بطريقة سرية أو في مرحلة ما، لكن من يريد ترك الحبل علي الغارب لمراقبة كل الناس وفي أي وقت ودون مبرر منطقي مقبول هو من يريد أن يبقي كل الخيوط في يديه، لكن العالم تغير وسيظل يتغير.