في شهر فبراير الماضي أهدتني الأستاذة كريمة زكي مبارك الطبعة الجديدة من تحفة مؤلفات والدها «النثر الفني في القرن الرابع الهجري»، 526 صفحة، التي صدرت في سلسلة «الصفوة» عن الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، 2010، طبعة محققة يتصدرها «مدخل لدراسة زكي مبارك»، 15 صفحة، بقلم الأستاذ الدكتور عبد العزيز نبوي الذي يفيد بأن «هذا الكتاب، النثر الفني في القرن الرابع الهجري، أصله باللغة الفرنسية هو رسالته التي نال بها دكتوراه الدولة من السوربون سنة 1931، وقد ترجمه المؤلف إلي العربية ونشره سنة 1934 مع زيادات...»، ولكم تمنيت منذ استلمت الكتاب أن تتاح لي الفرصة للتنويه عنه، وأنا أحمل البشارة للقارئ غير المتخصص بأن هذا الكتاب له؛ يمكنه قراءته والاستمتاع بمذاقه الثقافي اللذيذ، فهو أكاديمي من دون جهامة وعلمي منهجي من دون قتامة، تشيع في جديته روح زكي مبارك وماتميزت به من غرور ظريف وخفة ظل تطيح بأي احتمال للملل، ولأنني صرت من الكُتّاب الرّحل يصاحبني غنائي: «أهرب بقلمي أروح علي فين؟»، لم أستطع أن أعرف متي وأين أحط تنويهي حتي داهمني شهر أغسطس وحان موعدي للاحتفال بعيد ميلاد زكي مبارك ال 119 يوم 5 أغسطس، وعيد ميلادي ال 73 يوم 17 منه، وكان الله سبحانه قد فتح لي إطلالة ممكنة، بين حين وآخر، تتيحها لي «الدستور»، فافرح ياقلمي لك نصيب في بلوغ مناك! يبدأ زكي مبارك فاتحة كتابه بهذه الأسطر التي أحب نقلها ليتذوق القارئ طعم كلامه مباشرة: «هذا كتاب (النثر الفني في القرن الرابع الهجري) وهو كتاب شغلت به نفسي سبع سنين، فإن رآه المنصفون خليقا بأن يغمر قلب مؤلفه بشعاع من نشوة الاعتزاز فهو عصارة لجهود عشرين عاما، قضاها المؤلف في دراسة الأدب العربي والأدب الفرنسي؛ وإن رأوه أصغر من أن يورث المؤلف شيئا من الزهو فليتذكروا أني ألفته في أعوام سود، لقيت فيها من عنت الأيام ما يقصم الظهر، ويقصف العمر: فقد كنت أشطر العام شطرين، أقضي شطره الأول في القاهرة، حيث أؤدي عملي، وأجني رزقي، وأقضي شطره الثاني في باريس، كالطير الغريب، أحادث العلماء، وأستلهم المؤلفين، إلي أن ينفد ما ادخرته أو يكاد. ثم صممت علي أن أنقطع إلي الدرس في جامعة باريس حتي أنتصر أو أموت، وكانت العاقبة أن أنعم عليّ الله، عز شأنه، بالنصر المبين. ولكني أحب أن أكون في طليعة المنصفين لمؤلف هذا الكتاب، وهل من العدل أن أظلم نفسي وأنصف الناس؟ إن هذا الكتاب أول كتاب من نوعه في اللغة العربية، أو هو، علي الأقل، أول كتاب صنف عن النثر الفني في القرن الرابع الهجري، فهو بذلك منارة أقيمت لهداية السارين في غيابات ذلك العهد السحيق. ولن يستطيع أي مؤلف آخر مهما اعتز بقوته، وتعامي عن جهود من سبقوه أن ينسي أني رفعت من طريقه ألوفا من العقبات والأشواك...................». عناوين الكتاب من الباب الأول: تطور النثر الفني من عصر النبوة إلي القرن الرابع، والباب الثاني: خصائص النثر الفني في القرن الرابع، الباب الثالث: كُتّاب الأخبار والأقاصيص، الباب الرابع: كُتّاب النقد الأدبي، الباب الخامس: كُتّاب الآراء والمذاهب، الباب السادس: كُتاّب الرسائل والعهود. من بين مؤلفاته العديدة كتابه «زكي مبارك ونقد الشعر» الذي يتضمن نماذج تطبيقية لمنهجه النقدي الذي يعمد إلي جذب الفاكهة من قلبها في احتجاج غير خاف علي هؤلاء الذين يملأون عقل القراء بالقشر الجاف حتي التشبع بالملل وسوء التغذية فلا يصلون أبدًا إلي بؤرة التذوق الممتع، يرفع زكي مبارك قلمه ليطيح بآراء د. محمد حسين هيكل في البارودي، والأستاذ أحمد أمين في مقدمته لشرح ديوان حافظ، ويقربنا من شخصية الشاعرين حافظ وشوقي الإنسانية بضعفها ولمحات شرها ويجعلك بسرد هذا الضعف والشر للشاعرين الكبيرين أكثر قربًا منهما وحبًا لهما. إن الدكاترة زكي مبارك ناقد وكاتب تتغلغل فيك، حين تقرأه، الفائدة وتشعر معه بالصحة الفكرية والمتعة الثقافية، وتعرف بحيوية أسلوبه اليقظ فتزداد علمًا ووعيًا: إنه الناقد الإبداعي الذي يجب أن تؤرخ به ريادة النقد، وليس الدكتور محمد مندور كما يزعم المتعصبون لأهوائهم علي حساب الحقيقة والعلم وأمانة التاريخ؛ هؤلاء الذين يحسبون أن الدنيا ليست سوي أنوفهم القريبة جدًا من أعينهم والتي لايرون غيرها لضعف بصرهم الشديد. ستون عامًا هو كل مشوار هذا العبقري علي أرض الدنيا؛ مابين ميلاده بقرية سنتريس بالمنوفية 5/8/1891حتي وفاته بمستشفي الدمرداش 23 يناير 1952، إثر حادثة تصادم بعربة حنطور قرب محل الأمريكين، قبل حريق القاهرة 26 يناير 1952 بأيام ثلاثة! طيب الله ثراه.