حسنا، من كان يتخيل أن أستاذ هندسة الاتصالات الذي سيترك مهامه الأكاديمية في عام 1999، ليصبح أول وزير للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ثم رئيسا للوزراء في 2004، سيستطيع أن يكون - وفي سنوات قليلة - واحدا من أقوي الرجال في نظام شمولي محكم كنظام مبارك، المغلق بالضبة والمفتاح أساسا علي مجموعة منتقاة من «القابضين علي السلطة»؟! فعلها د.أحمد نظيف بدهاء وصبر - لم يلحظه أحد عليه من قبل - وقدرة كبيرة علي المناورة والانحناء أمام موجات البحر الهادرة، وهي الصفة السكندرية الوحيدة تقريبا التي اكتسبها من مكان ولادته، فيما فاته أن يكتسب باقي الصفات الإسكندرانية «الأصيلة». عندما أتي نظيف إلي رأس الحكومة لأول مرة في يوليو 2004 تصور كثيرون أنه سيكون لقمة سائغة لعدد من الوزراء المخضرمين والعتاولة الموجودين في الوزارة، وأنه لن يكون أكثر من محلل شاب، سيمرر المنصب المهم لواحد من رجالات الحزب الوطني الكبري في فترة لاحقة، وأن وجوده كرئيس للوزراء وقتها، يخدم السيناريو المكتوب عندما سيرتدي النظام كله -بعد عدة أشهر منذ ذلك التاريخ- القميص الأبيض والكرافت الشبابي، ليبدو وكأنه يعبر إلي المستقبل فعلا علي أكتاف مجموعة من الشباب، واحد منهم يرأس الحكومة، بصرف النظر عن غلبة اللون الأبيض لشعره. لكن الأيام السوداء مرت وفي ذيلها شهورا وسنين، وقدرة أحمد نظيف علي البقاء في منصبه، تزداد شيئا فشيئا وبشكل مطرد، ولعل التعديل - مجازا - الوزاري الأخير الذي سكن وزيرا في منصب خاو، وجلب ابنا لوزير داخلية سابق وزيرا للتعليم في أول عملية «توريث وزاري» تحدث في عهد الرئيس مبارك، لعل هذا التعديل-الذي مر ناعما لينا حانيا سهلا علي أحمد نظيف أو مجموعته المقربة في الحكومة - أكبر دليل علي تزايد سطوة ونفوذ وقوة أحمد نظيف، بدرجة -بكل تأكيد - تثير قلق منافسيه ليس علي منصب رئيس الوزراء فحسب وإنما ما هو أبعد.. وأخطر. الشاهد أن قراءة أحمد نظيف لأوراق اللعبة منذ البداية كانت ناجحة، فهو أولا لم يكشف عن طموحه بدرجة مزعجة ولم يصنع لنفسه شعبية بين رجل الشارع العادي مثلما فعل د.كمال الجنزوري عندما كان رئيسا للوزراء فتمت الإطاحة به بعد ثلاث سنوات ونصف السنة فقط، كما أن نظيف لم يشغل باله بمن هو آت «جمال مبارك»، وإنما اهتم بأن يكون مقربا من الرئيس مبارك مرضيا عنه منه، وهكذا كان من الذكاء بما جعله لا يشتت طاقته وقدراته بين رضاء مبارك الأب ومبارك الابن فلا طال رضا هذا أو ذاك، وكان من الفطنة بحيث إنه أدرك مبكرا أنه وإذا كان نفوذ جمال مبارك يتزايد وتدخله في السياسات والسلطات يتضخم، إلا أن الكلمة الأخيرة والقول الفصل لا يزال بين يدي الرئيس مبارك، وعليه فإن كان مخلصا وفيا له، كانت نتائج ذلك مبهرة، وهل هناك نتائج أكثر إبهارا من كونه مستمرا رئيسا للوزراء، رغم أنه واحد من أكثر رؤساء وزراء مصر الذين تعرضوا لانتقادات حادة وعلنية، في الخمسين سنة الأخيرة، بل إنه رئيس الوزراء الوحيد في عهد مبارك الذي تم اتهامه باستخدام نفوذه لتمرير مصالح شخصية وهو لا يزال يمارس مهام منصبه، مثلما حدث عندما فجر الكاتب الكبير عادل حمودة قضية جامعة النيل الخاصة التابعة لإحدي الجمعيات الأهلية التي كان د.نظيف واحدا من مؤسسيها، وعندما أصبح رئيسا للوزراء أصدر قراراً بتخصيص الأرض التي تقام عليها الجامعة - التي تقدر بالمليارات- لصالح الجمعية التي هو عضو مؤسس بها، وسنعرف لاحقا أن هذه الجامعة التابعة للجمعية تستقبل طلاب قسم الهندسة بمبلغ خرافي يصل في السنة الواحدة إلي 66 ألف جنيه، أضف إلي ذلك أن حكومته هي صاحبة الرقم القياسي في عدد الإضرابات التي طالت العديد من القطاعات حتي تلك التي تبدو «حكومية مطيعة» مثل المدرسين والأطباء والموظفين، لكن نظيف كأي سباح ذكي أعطي ظهره لكل هذه الأمواج المتلاحقة العنيفة فتكسرت وبقي وجهه مبتسما مشرقا في مواجهة الرئيس الذي أصبح من المؤكد أنه يثق في نظيف أكثر بكثير من أي شخص آخر من رجاله، وأنه يعطيه المزيد من الصلاحيات والنفوذ، خذ مثلا قرار نظيف بمنع البرنامج الساخر «حكومة شو» من العرض التليفزيوني لأنه يسخر منه ومن سياسته، رغم أن البرنامج تم إنتاجه بموافقة وزير الإعلام، ورغم ما تؤكده مصادر بأن الرئيس مبارك قد شاهد بضع حلقات منه ولم يعترض عليه، قد يبدو المثال بسيطا لكنه يعطي دلالات عميقة، لا تصل إلي حد أن نظيف أقوي نفوذا من مبارك طبعا، وإنما أن الرئيس يهتم كثيرا بألا يغضب نظيف وبألا يتعرض له أحد أو يهمش من دوره. اللافت أن منافسي نظيف أو المتطلعين لإزاحته من منصبه ليحلوا هم مكانه، أو من هو «تبعهم»، قدموا له دون أن يدروا الخدمة تلو الأخري عندما انشغلوا هم أنفسهم بصراع داخلي بينهم، والنموذج المثالي لذلك هو ما يحدث بين صفوت الشريف أمين عام الحزب الوطني وجمال مبارك أمين مساعد الحزب، فكل منهما يريد أن يكون صاحب الكلمة الأقوي والأهم في الحزب وفي الحكومة طبعا، والفائز الوحيد من ذلك هو أحمد نظيف. د.محمد الجوادي - الكاتب والباحث في التاريخ - يقول في ذلك: «أي اختلاف أو صراع مكتوم بين أي قيادات كبري في أي حزب يتولي السلطة تكون نتيجته النهائية هي أن تكون الحكومة هي الأقوي، خاصة إذا لم يكن في الحكومة (رجل ثان) معروف، وإنما خمسة علي الأقل يتطلعون لمنصب الرجل الأول». لكن د. الجوادي يذهب إلي رصد سمات شخصية في د.نظيف صنعت منه الآن رجلا قويا في النظام :«مهنة هندسة المعلومات تتيح للذي يمارسها القدرة علي تفريق الدماء بين القبائل، وإعطاء الأهمية للعناصر الفرعية علي حساب المهمة الأصلية، لاحظ أيضا أن نظيف يتعامل مع القرية الذكية باعتبارها (قصرا جمهوريا موازيا)، ذلك يجعل الوزراء يشعرون بأنهم بلا أهمية طالما ظلوا خارج «الطاقم الخاص لرئيس الوزراء»، وهذا تقريبا ما حدث في واحدة من آخر الحكومات الملكية في عصر ما قبل الثورة عام 1952، وتحديدا حكومة علي ماهر، إذ ضمت تلك الحكومة اثنين من الوزراء كانا علي علاقة وثيقة بالمخابرات الأمريكية، وهو ما جعلهما يتصوران أنهما أقوي من رئيس الوزراء، ولذلك فإن أحدهما قال له ذات مرة في أحد الاجتماعات «أنت رئيس مجلس الوزراء وليس رئيس الوزراء، فما كان من علي ماهر إلا أن غير مكان الاجتماع من حجرة مجلس الوزراء إلي مكتبه الشخصي، ليكسر لدي الوزراء الشعور بأنهم أعضاء في مجلس الوزراء وينقل لديهم الإحساس بأنهم «يشتغلون عنده»، وهو ما يكرره أحمد نظيف عندما يجتمع بالوزراء في مكتبه بالقرية الذكية وليس في مقر مجلس الوزراء»- بحسب ما قاله الجوادي. يدرك نظيف إذن الآن أنه أصبح قويا، وأنه يقترب كثيرا من أن يكون «الرجل الثاني في الدولة.. الرسمية»، إن لم يكن بالتعديل الوزاري الأخير قد أصبح كذلك فعلا، متجاوزا بذلك قيادات «تاريخية» تدخل في عضم نظام مبارك، مثل «صفوت الشريف» و«أحمد فتحي سرور» و«مفيد شهاب»، ومتفوقا حتي هذه اللحظة، علي شخص ك «جمال مبارك» يتمتع بأكثر درجات القرب من الرئيس بحكم صلة الدم، وعاطفة الأبوة، والرغبة في استمرار العائلة علي كرسي الحكم، وهكذا يكون من حق نظيف إذن أن يجلب وزراء جدداً علي هواه، ويدرك أنهم سيكونون في فريقه إذا ما حدث طارئ، وهو ما يزيد من عدد أعضاء فريقه الخاص من الوزراء المقربين، ومن حقه إذن أن يمارس سلطاته بأقصي درجة من النفوذ، لكن هل هذه هي نهاية طموحه فعلا؟! في نظام مثل نظام مبارك، كل الأشياء حتي تلك التي تبدو بعيدة عن المنطق واردة جدا، يمكن أن يظل الرئيس متمسكا بألا يختار نائبا له طوال ما يزيد علي ربع قرن حتي «لا يفرض شخصا بعينه علي الشعب»، ثم يقرر فجأة أن الوقت قد حان لذلك، وأن تعيين شخص مثل أحمد نظيف في ذلك المنصب سيحدث توازنا ما بين الأطراف المتصارعة في حالة إذا ما تم البدء العملي في مشروع نقل السلطة إلي جمال مبارك، لاحظ أن نظيف كان أكثر مسئول مصري تقابل مع الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش طوال فترة «البرود الرئاسي» بين مصر وأمريكا، وأن تعيينه في منصبه كأصغر رئيس وزراء في تاريخ مصر قوبل بحفاوة كبيرة في الخارج، يذهب الجوادي ليقول: أي مقارنة الآن في المناصب السياسية والحكومية والتنفيذية بين أحمد نظيف وجمال مبارك محسومة تماما لصالح الأول، ذلك أن المصريين يؤمنون دوما بأن القوة تكمن لدي العمدة الذي يوجد في دواره التليفون وليس أي شخص آخر»، هذا صحيح لكن المشكلة تكمن بكل تأكيد في قدرة أحدهم - معروف للجميع - علي قطع الحرارة عن تليفون العمدة عندما يقرر أن الوقت المناسب لهذا قد حان!