«في مباراة لكرة القدم.. كل شيء مباح».. قالها المعلق فيما كان صوته يتهدج ويرتعش، في أداء ناطق بالحكمة التي دفع صاحبها ثمنها من لحمه ودمه في مشوار السنين. «في مباراة لكرة القدم.. كل شيء مباح». اعتدلت في جلستي المائلة أمام الشاشة وقد انتزعتني الجملة العجيبة من حالة الوجد الكروي والنيرفانا المونديالية. ما الذي يقوله هذا الرجل؟ ولماذا قاله؟ وما مناسبته وموضعه ومنطقه فيما أشاهده من مباراة لكرة القدم؟ هل الذي يتكلم هو إيفان كرامازوف في رائعة ديستويفسكي التي تحمل الاسم نفسه؟ ألم يقل شيئا من هذا القبيل وردده نور الشريف في فيلم الإخوة الأعداء؟ لماذا أنا غبي إلي الحد الذي يعجز أن يري موقع الجملة من الإعراب داخل سياق التعليق علي مباراة؟ لا بد أن المعلق قالها لسبب منطقي ما، ولا بد أنه عني بها شيئا غير إحداث ضجيج صوتي يملأ فراغا بين ضربة حرة غير مباشرة ورمية تماس، ولا بد أنه يعي الوقع الفلسفي العميق الذي تحمله العبارة، ولا بد أنه مدرك لتناصها مع ديستويفسكي، ولا بد أن صوته تهدج وانفعاله تضعضع تحت وطأة هول العبارة في السياق وكأنه يلخص تجربة جنس بشري في لحظة تاريخية فاصلة، ولابد.. ولابد..، أم أن هناك بداً، وأن نظرية الضجيج هي الأصدق إنباء عن الخبر اليقين؟ حين أفقت من تساؤلاتي كانت المباراة قد شهدت هدفين وحادث طرد دون أن تسجل ذاكرتي أي شيء منها، فلعنت المعلق وتخاريفه، وفهمت العبارة علي أنها: «في (التعليق) علي مباراة لكرة القدم.. كل شيء مباح». الشوط الأول: «أوووووااووووووااااوووووووه ه ه ه.... أوواووواووووه ووواواووووووواه ه.... الشوط الثاني: «إيييييي إيييياايييااايييييييايييييييي أوه لالالالالالاه لالالالالاه ما الذي فعلت يا حللللليييييييشششششششش..». الصورة: هجمة خطيرة لأحد الفريقين، ضربة حرة مباشرة علي حافة منطقة الجزاء، لاعبو الفريق المدافع في احتكاك جسدي عنيف مع المهاجمين الذين يحاولون شرخ حائط الصد الدفاعي بأجسادهم والحكم محشور بلا حول ولا قوة في غابة الأجساد. التعليق: «... وفي عام 1934 كان الفريق المصري هو الممثل الأول للعرب في المونديال، والتقي منتخب المجر الذي فاز بنتيجة 4-2، وسجل هدفي مصر عبد الرحمن فوزي لكن التاريخ يذكر أن الذي صنع الهدفين كان مختار التتش، وبالمناسبة فإن ملعب النادي الأهلي يحمل اسم هذا اللاعب... جووووووووول!!!!» ما معني «السني صاو»؟ هل هو «الصويصاو» الذي كانت تتحدث عنه الممثلة شيرين في مسرحية «المتزوجون» في الديالوج الشهير مع سمير غانم؟ ولماذا يصر جميع المعلقين علي الإشارة لفريق البرازيل العظيم بهذا المصطلح الأعجمي الغامض بل الغبي؟ هل عجزت لفظة (البرازيل) عن أن تؤدي معني البرازيل؟ لنقل مثلا إن منتخب مصر مشهور باسم الفراعنة، فهل يقولها المعلق الإنجليزي هكذا بلفظها العربي ودون ترجمة متعجرفا ومتعاليا ومتعالما ومتحذلقاً علي مواطنيه في لندن ومانشستر وليفربول؟ فبدلا من أن يقول مثلا في وصفه لهجمة مصرية: here come the Egyptians، هل يقول here come the Faraana? وإذا لم يقل المعلق المحترم (سني صاو) العجيبة هذه وتنازل احتراما لجمهوره وعقليته وثقافته ولغته، فهو حينئذ يقول (السامبا)! ومادام هناك في الكرة سامبا وتانجو ورومبا فماذا نكون نحن؟ لا بد أننا منتخب العشرة بلدي أو الواحدة ونص أو هز البطن! وهكذا أيضا يصبح فريق ألمانيا هو فريق (المانشافت). والمانشافت كلمة ألمانية تعني الفريق، وليست كناية ولا مجازاً ولا شهرة ولا يحزنون. فلماذا لا نكتفي بقول الفريق الألماني كما يقول الألمان أنفسهم، ونقول المانشافت التي لا يفهمها أحد؟! الشيء نفسه هو كلمة (لاسلكثيون) التي يتحفوننا بها في الإشارة للأرجنتين ولا تعني أكثر من كلمة منتخب! ويبقي كل هذا كوماً، وما قيل في فريق أنجولا أيام كأس إفريقيا كوما آخر. فأنجولا، بحسب المعلقين الجدد (علي وزن المحافظين الجدد والدعاة الجدد إلخ...) هي: التشيبولولو! إزاي ؟ ما أعرفش! في كتابه الجميل والعظيم (ميثولوجيات) وتُرجم أيضا بعنوان (أسطوريات)، كتب الناقد واللغوي والمفكر الفرنسي البنيوي الكبير رولان بارت فصلا أو مقالا عن مصارعة المحترفين. ويذهب بارت إلي أن هناك تواطؤاً بين اللاعبين والمشاهدين والمنظمين علي أن مصارعة المحترفين ليست رياضة، بل هي استعراض باهر، تراجيديا معاصرة محددة الأدوار تجسد صراع الخير والشر، وتجسد الطباع الإنسانية من زواياها الحادة. فالفائز ليس مهما، والنتيجة ذاتها ليست مهمة، وقد تكون محددة سلفاً، ولكن الأداء هو المهم، كيف يكون النذل قمة في النذالة والانتقام مستوعباً لكل معانيه. ويبدو أن معلقينا الرياضيين من أبناء هذا المفهوم. فمهما كانت المباراة ونتيجتها وحلاوتها أو عقمها، فإنهم متمسكون بأدائهم وطريقتهم المأساوية في التعليق. فهذا بنبرته الباكية سيبكي في كل مباراة، وذاك بانفعاله المفتعل (أو افتعاله المنفعل، كما تشاء) يتحدي الملل مثله مثل ميلودي! وهكذا يصير التعليق دراما في غير موعدها، عماده الوحيد هو الصوت الذي يتحول شيئا فشيئا إلي ضجيج. ويعتبر المعلق الحديث نفسه جزءا فاعلا في البناء الدرامي لماتش الكورة، فهو يدخل في حوار إنشائي مع عناصر البناء الأخري: «ماذا فعلت ياسيدي الحكم؟ لماذا ياحليششششش؟! آه منك يا جابولاني وألف آآآآه!! قلبي قلبي قلبي..!! صوتي راح!! عقلي راااح!!! أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة!» ويجلس المعلقون في آخر الليل علي مقهي المعلقين ( ولا بد أن شيئا كهذا موجود!) ليعاير بعضهم بعضاً بأن هذا ضبط ثلاث ثوان من الصمت في تعليق ذاك، فيرد الثاني بأنه رغم ذلك أورد 112 إحصائية في مباراة واحدة وهو رقم قياسي جديد، فيما يفتخر ثالث بأنه قال سني صاو ولاسلكثيون ومانشافت وبافانا بافانا وأتزوري وروسونجرو وتشيبولولو في مباراة واحدة! شكرا للجزيرة علي التعليق باللغة الإنجليزية.