إذا كنت من المتابعين لما يحدث في مصر فإنك تشاهد عجبا، فمصر يمكن وصفها بأنها أصبحت مجتمع الأزمات «وليس مجتمعا يبحث عن كيف يحسن مستويات إنتاجه ومعيشته بالفعل وليس بالتمنيات والتصريحات المكررة» فلا تكاد أزمة تتواري ولا نقول تنتهي حتي تسيطر علي الساحة أزمة جديدة ، وهكذا أصبحت مصر كخشبة المسرح التي تتناوب عليها عدة فرق ، كل فرقة تعرض أزمة أمام الرأي العام الذي يتفاعل معها وتمتلئ الصحف بالمتابعة والتعليق علي ما يحدث ثم بعد فترة يصاب الجميع بالملل فتتواري هذه الأزمة دون حل حقيقي لتظهر علي مسرح الأحداث أزمة جديدة وهكذا دواليك. وعلي المسرح الآن أزمة الكنيسة ورفضها حكم الإدارية العليا بالتصريح بالزواج الثاني للمطلقين، وهناك أزمة المحامين والقضاة، وتنازعهما في الاهتمام أزمة الشاب السكندري خالد سعيد ضحية مخبري الداخلية ، ويستعد مسرح الأحداث لاستقبال أزمات جديدة مثل أزمة الصحفي وائل الإبراشي وتحويله إلي الجنايات لكتاباته عن رفض قانون الضريبة العقارية وهو ما سيؤدي إلي أزمة الصحافة مع الدولة ، وهناك أزمة جديدة بدأت تطل علينا وهي أزمة بيع جزيرة آمون في أسوان وما يشتق منها من افتراس الحكام ما يستطيعون من ثروات مصر. وإذا كنت قد نسيت من كثرة الأزمات التي تضرب مصر فقبل الأزمات التي تسيطر علي الاهتمام الآن كانت هناك أزمات واعتصامات العمال وأزمة مياه النيل ورشوة المرسيدس وري المزروعات بمياه الصرف الصحي وقانون الشراكة مع القطاع الخاص وما تكشف من فضائح العلاج علي نفقة الدولة ومخالفات عزبة الهجانة التي اختفت فجأة وحكم المحكمة بإلزام الحكومة بتحديد حد أدني للأجور وهو ما لم ولن يحدث وغير ذلك الكثير. وأمام كل هذا الكم المتزايد من الأزمات لا يمكن للمتابع إلا أن يخرج بنتيجة أن هذا المجتمع في طريقه للانهيار ، وتصبح مقولات مثل أن ما يحدث من علامات الديمقراطية من الأقوال التي تحاول الاستهزاء بالآخرين، فالديمقراطية تستدعي عرض كل وجهات النظر دون تضييق أو مصادرة أو اتهامات بالعمالة لمن يخالف رأي الحكم والتوصل إلي حلول وليس التجاهل أو العلاج بالمسكنات كما يحدث في كل الأزمات. ومن الملاحظ أن كل الأزمات تبدأ نتيجة سبب محدد ولكن مع تصاعد الأزمة ينسي الجميع السبب الرئيسي لندخل في متاهات أخري هي مجرد تنفيس عن مشاكل عديدة لم تجد متنفسا لها وبالتالي تختلط الأمور والمصالح ويبدأ البعض في شخصنة المواقف وبالتالي لا تجد أي مشكلة حلا وهكذا تتراكم المشاكل والأزمات حتي أصبحت كل القطاعات وكل الفئات لها مشاكلها التي لا تجد لها حلا. وبالتالي يصبح السؤال: من المسئول عن كل هذه الأزمات ، هل هم الذين يرفضون وضعا أو قراراً محددا أم هؤلاء الذين يصنعون أو يتسببون في هذه المشاكل التي تتحول إلي أزمات؟ فمثلا في أزمة الكنيسة مع الدولة بسبب حكم الإدارية العليا والذي جعل الكنيسة تعلن رفضها حكم القضاء، مما جعل الكثيرين يرونها قد أصبحت دولة داخل الدولة وظهرت الدولة في وضع من لا يعرف كيف يتصرف في مواجهة التصعيد الكنسي والتهديد بحشد الأتباع في أربعاء الغضب مما جعل أحد القيادات الكبيرة في الدولة تتصل بالكنيسة (كما نشر بالصحف) وتتعهد بحل هذه المشكلة مما جعل الكنيسة تأمر أتباعها بعدم التظاهر وهو ما أدي إلي تشكيل لجنة لإعداد القانون الخاص بالأحوال الشخصية لغير المسلمين. من الواضح أن كلا الطرفين الدولة والكنيسة كانا يدركان أن الاحتمال الأرجح هو أن تصدر المحكمة ذلك الحكم من سابق عرض القضية علي درجات أدني للتقاضي ولأنه لا يوجد إلا لائحة 1938 التي تستند إليها المحكمة ، ولم تفكر الدولة في استباق الأحداث بإصدار القانون الموحد الذي يعالج هذه المشاكل بل استمرت كل القيادات في تجاهل هذه المشكلة حتي صدر الحكم ثم بدأت تداعياته من رفض الكنيسة للحكم ودعوة لحشد المؤمنين وأن البابا لن يتمكن من السيطرة علي أقباط المهجر ونتيجة لهذا الحشد القبطي تراجعت الدولة وبدأت في إجراءات إصدار القانون وهو ما ينطبق عليه القول الشعبي «ما كان من الأول» ، وبالطبع فإن ما حدث ليس حلا للأزمة بل هو محاولة لاسترضاء البابا وليس وضع قانون يقدم حلولا للمشاكل، فهناك الخلافات بين الطوائف الثلاث والتي بدأت تظهر في تصريحات ممثلي الكنيسة الإنجيلية بتهميش دورهم في اللجنة بحيث ستصبح لجنة لطائفة الأرثوذكس فقط وهو ما يضع البذور لمشاكل جديدة وهناك آلاف المتضررين من عدم السماح لهم بالزواج الثاني والذين سلمتهم الدولة للكنيسة لتفعل بهم ما تشاء وتقضي علي أحلامهم في حياة أسرية هادئة، مما يؤدي إلي المزيد من المشاكل نتيجة الخروج من الدين للزواج وما يصاحب ذلك من اتهامات بأسلمة المسيحيين وعندما يرغب بعضهم في العودة للمسيحية تثار مشاكل جديدة في حقهم في ذلك وينشط البعض من الأقباط في الحديث عن اضطهاد الأقباط وهكذا يدخل المجتمع في حلقات متتالية من المشاكل، لأن المسئولين في الدولة غير قادرين علي وضع الحلول السليمة التي تعالج المشاكل أو كما جاء بحكم المحكمة أن رعاية الأقباط الأرثوذكس مهمة من مهام الدولة. أليس فيما حدث دليلا علي عدم كفاءة من يحكمون الدولة الذين يحاولون تجميد الوضع وليس إصلاحه ولا نقول تغييره ؟ عندما انفجرت هذه المشكلة لتحدث هذه الأزمة والتي عنوانها عدم اعتراف الكنيسة بأحكام القضاء وما ترتب علي ذلك من تداعيات أضرت بالمجتمع ككل وليس وضعية الحكومة فقط فإن المسئولين عن ذلك هم من تجاهلوا هذه المشكلة وتركوها تتفاعل وتكبر حتي انفجرت في المجتمع لتزيد من الفرز الطائفي وتزيد من الهموم والمشاكل ويترك الكثيرون أعمالهم للتفرغ للمشاركة والحشد في هذه المشكلة وكأن المجتمع ناقص مثل هذه المشاكل بدلا من أن يتفرغ لمشاكل البطالة ونقص الإنتاج وتدهور مستوي المعيشة. إن النظام الحاكم من خلال ما يسمي بالسياسيين ورجال الإدارة هم المسئولون والصانعون لكل هذه الأزمات للعديد من الأسباب يأتي في مقدمتها عدم كفاءتهم ، فمن المفترض أن يكون هناك السياسي الذي لديه القدرة علي استشراف ما يمكن أن يحدث في المجتمع من خلال التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية وعليه أن يستبق الأزمات وذلك بمواجهة المشاكل في بدايتها ومحاولة حلها ، أما القيادات الإدارية ذات الكفاءة فهي التي تطبق القانون وتضع القواعد السليمة لإدارة منظومة العمل في الجهاز الإداري للدولة، وكل هذا أصبح غير موجود في مصر فنتيجة لسياسة التجفيف لم يعد هناك ساسة بالمعني الحقيقي لذلك وبالتالي تنشأ الأزمات لغياب السياسي وتحوله إلي موظف ينفذ تعليمات رؤسائه دون قدرة علي تحليل الوضع واقتراح الحلول لمواجهة المشاكل قبل أن تتفاقم بل أصبح دوره هو محاولة التغطية علي المشاكل حتي تنفجر من كثرة الضغوط ، وكذلك تنشأ الأزمات لضعف الكوادر الإدارية وعدم كفاءتها وأعتقد أن معيار شغل الوظائف القيادية لم يعد البحث عن الأفضل لإدارة أي جهة عمل بل توظيف المعارف والأتباع لكي يمكن السيطرة عليهم وبالتالي فعندما يتقلد غير الأكفاء مقاليد الإدارة فمن المتوقع أن تنهار نظم العمل وتتغلب اعتبارات الشللية والمصلحة الخاصة وهذا أفضل مناخ لتفريخ الأزمات. وهكذا نجد أن الأزمة الحقيقية هي فيمن يحكمون ويديرون مصر، فهم من يصنعون هذه الأزمات بعدم كفاءتهم وعدم توافر مقومات السياسي في أغلبهم فهم مجرد موظفين ينفذون التعليمات ويتلقون العطايا دون اهتمام بمصالح الوطن الذي اختزلوه في المجموعة الحاكمة والمسيطرة علي السلطة.