يبدو أن الجاري حولنا الآن له مستويات فوق مستويات، يخفي بعضها بعضا بطرق من أخبث ما عرف في التاريخ، بما في ذلك تاريخ التحايل بين الفريسة والمفترس في مملكة الحيوانات عبر التاريخ الحيوي، وقد أصبحت المستويات التي تخفي تحتها ما هو أخطر وأخطر، أكثر نعومة وتدليسا من أن يكشفها أي فكر مستعجل، أو وعيٍ كسولْ، أو وجود تابع، وكلما حاول فكر أو قلم، أو ناقد، كشف عن بعض تلك الطبقات الأسفل فالأسفل (من السفالة والسفليّ معاً)، اتهم بالتفكير التآمري... إلخ. مثلا: هذا الجاري ما حقيقته في ملعب القضية الفلسطينية، التي هي نموذج مصغر للقضية العربية، وهي هي نفس التحدي الذي يهدد العالم أجمع كقضية إنسانية شاملة؟ منذ عشر سنوات كتبت في صحيفة عربية (الوطن / السعودية) بتاريخ: 2000/10/9«.... ما حدث ويحدث في القدس مؤخرا، هو تنبيه لمعني ومدي ونتيجة الإغراق بمعلومات لم يطلبها أحد، إنه تحذير من الاستسلام لوعود برفاهية لم نُخْطر بكمّ المخدرات التي تحتويها. «ثم» هذه الدماء التي تسيل، والبيوت التي تهدم، والأبرياء الذين يقتلون، هي فرصة صارخة تدعونا للمراجعة. «ثم....» هؤلاء الشبان الذين ولدوا بلا وطن، ونشأوا بلا هوية، هم الذين يطالبون بالاستمرار فيما يفعلون، إذْ ليس عندهم ما يبكون علي فقده، أو ما يخافون عليه. هم الذين يستشهدون، هم الذين ينزفون، وهم هم الذين يطالبون باستمرار ما يجري من مواجهة»... «فكيف لا نحترم ما يفعلون بأن نستيقظ من غفلتنا علي الأقل». إلي أن قلت: «إن ديمقراطية إسرائيل، مثل ديمقراطية أمريكا، إنما تنكشف أمام أي اختبار حقيقي في التعامل مع الأقليات، ومع الخصم، ومع العدل، إننا لا بد أن نبحث لها عن اسم آخر، أو أن نبحث لنا نحن عن قيمة أخري». ثم كتبت بعد أسبوعين في الصحيفة نفسها: «لا مفر من إعادة النظر في ألعاب اللغة وخبث الخطاب»، مما لابد أن يجرنا ..... إلي إعادة تعريف كثير مما نعرف، مثل: معني الحرب، ومعني العدو، ومعني النصر، بل ومعني الإنسان. في المقالتين رحت أعدد بعض الأوهام التي لعبوا في عقولنا لإقناعنا بها. وتمضي عشر سنوات، وأجدني أمام أوهام أكثر وحقائق كاشفة أكثر صراحة ومرارة، أقدم بعضها في هذه التعتعة الآن، مجرد عناوين، قد أعود إليها. تحديث أوهام وحقائق (عناوين): الوهم الأول: إنها قضية الشرق الأوسط. الحقيقة: إنها احتلال استيطاني إذلالي استغلالي لأرض فلسطين، وناس العرب جميعا، ومواردهم، وهو يتمادي كل يوم، ليسحق الجميع، ويستعمل من تبقي منهم. الوهم الثاني: إنها إسرائيل. الحقيقة: إسرائيل ليست فحسب هذه الإغارة المنظمة لسحقنا من الخارج ومن الداخل، إسرائيل ليست هذا التجمع العنصري المختلط المستغل المغير القاتل المستعمر لقطعة أرض لم تكن أبدا لها. إسرائيل هي النموذج الواضح والصارخ - لكل سلبيات واغتراب وجشع الإنسان المعاصر الأكثر مالا وطغيانا وقسوة، في مرحلة من أصعب وأخطر ما تمر به الإنسانية. الوهم الثالث: إنها أمريكا. الحقيقة: إنها القوي المالية المافياوية المعولِمَة التي تحكم العالم بالمال للمال، لصالح من نعلم ومن لا نعلم، ممثلة في إسرائيل كرمز كاشف، لمن يريد أن يري. الوهم الرابع: إنها الديمقراطية. الحقيقة: إنها الوسيلة الأسهل لحصاد الناتج الفكري الظاهر علي سطح الوعي المغيّب لمجاميع الناس، فلا توجد ديمقراطية تقول: إما أن تنتخب رجلي أو أقتلك، أو تحديداً: إما أن تنتخب محمود عباس أو تموت جوعا! الوهم الخامس: إنها إشكالة توسيع المستوطنات (في القدس وغير القدس). الحقيقة: إن القضية هي وجود المستوطنات أصلاً علي أرض وطن ليس هو وطن ساكينها. الوهم السادس: إنها قضية العودة للمفاوضات. الحقيقة: إنها لعبة استعمال المفاوضات مباشرة أو غير مباشرة لإقرار الوضع الراهن أو التأجيل الأبدي. الوهم السابع: إنه حصار غزة وحرمان أهلها من الحاجات الإنسانية من غذاء ودواء.. إلخ. الحقيقة: إنه احتلال غزة، وإذلال ناسها حتي يلقوا سلاحهم إذْ ينتخبون العميل المطيع. الوهم الثامن: إن نموذج «تركيا» هو الحل. الحقيقة: أن تركيا قد يثبت أنها عميل مزدوج، وإلا فما حكاية شراء الأسلحة من إسرائيل بل والمناورات العسكرية المشتركة،..... حتي بعد أسطول الحرية؟. الوهم التاسع: إنها قافلة شريان الحياة. الحقيقة: إنها مسكنات طيبة، من ناس طيبين، اندس بينهم عملاء لأغراض ظاهرها الرحمة، «شريان الحياة» الحقيقي هو الشريان الذي يسري فيه العدل الفاعل وليس فقط المعونات العاجلة (مع الشكر). الوهم العاشر: إنه أسطول الحرية. الحقيقة: إنه تسكين آخر نشكر النوايا الطيبة وراءه، وننتظر قبله وبعده حرية حقيقية علي الأرض ليست في حاجة إلي أسطول. وللحديث بقية