عندي أسبابي التي تقنعني بأن الدولة هي المستفيد الوحيد من الأزمة الحالية بين المحامين والقضاة.. والدولة هنا هي نظام الحكم وجماعة السلطة الضيقة.. والتي كانت حاضرة بقوة في الأزمة ولم تكن غائبة عنها كما قال البعض. الحكاية بدأت منذ سنوات قليلة عندما نجح القضاة في صناعة صورة جديدة لهم عند الرأي العام كقادة للنخبة المصرية.. فزادوا حالة الحراك السياسي في الشارع.. ونجحوا في نقل قضايا الحريات ونزاهة الانتخابات من داخل صالوناتهم إلي المواطن البسيط.. كما أثارت جمعياتهم العمومية ضيق جماعة الحكم خاصة بعد ظهور بعضهم في صورة نجوم قادة التغيير أمثال الخضيري وعبدالعزيز والزيني والبسطويسي. ورغم مضايقات بعض أجنحة الحكم لتيار الاستقلال داخل الهيئة القضائية.. واتباع أساليب الترغيب والترهيب.. لكن الصورة العامة عن القضاة لدي الرأي العام ظلت قوية وناصعة.. ونجح الحكم في إحداث التغيير داخل الجماعة القضائية.. وجاء مجلس جديد لنادي القضاة عبر صناديق الانتخابات.. وتغيرت الشخصيات لكن ظلت الصورة العامة عن القضاة لدي الرأي العام كما هي بوصفهم أحد رموز التغيير. لم تكن نقابة المحامين بعيدة عن حالة الحراك السياسي في البلد.. فكانت أحد أضلاع مثلث شارع عبدالخالق ثروت مع نقابة الصحفيين ونادي القضاة.. وكان للمحامين ونقابتهم مشاركتهم الرئيسية في الحياة السياسية.. تمثلت في حضورهم الكثيف لقضايا الرأي والحريات أمام المحاكم دفاعاً عن قادة الرأي.. كما فتحت النقابة أبوابها أمام مختلف القوي السياسية.. خاصة جماعة الإخوان المسلمين.. فعقدوا ندواتهم ومؤتمراتهم المعارضة للنظام وسياساته. ورغم محاولات بعض قادة الحزب الحاكم التدخل في نقابة المحامين.. فإن صورة الرأي العام عنها ظلت إيجابية.. وكان المحامون أبرز النخب التي نزلت الشارع.. وقد نجحت نقابة المحامين ونادي القضاة في تصدر الساحة السياسية.. وقيادة الحديث عن ضرورة التغيير والإصلاح في مصر.. ولا يمكن الحديث عن الإصلاح السياسي والديمقراطية دون استدعاء أسماء جماعتي المحامين والقضاة. ويعرف الحكم أنه خلال شهور سوف تجري انتخابات مجلس الشعب وستعقبها الانتخابات الرئاسية.. وهما حدثان سيؤثران في حياتنا السياسية.. ومن الممكن لجماعات التأثير والضغط السياسي كالمحامين والقضاة -إضافة إلي قوي أخري- أن تلعب أدواراً لا يرضي عنها نظام الحكم.. وقد تسبب له ضيقاً.. لكن الدولة لا تملك آلية فورية تجعلها تضبط الإيقاع تجاه جماعة المحامين والقضاة.. إلي أن وجدت الدولة نفسها أمام فرصة لن تكلفها شيئاً فقررت استغلالها.. ونعني بها معركة القضاة والمحامين والتي بدت منذ اللحظة الأولي أنها ستكون حامية الوطيس. انتهزت جماعة الحكم ودائرته الضيقة الفرصة.. وقررت عدم التدخل وتركت كلا الطرفين يصارع الآخر إعلامياً وأمام النائب العام.. والرأي العام يتابع ما يجري أمامه ويتساءل بأسي: هل من المعقول أن تتعارك النخب المثقفة وقادتها بهذه الطريقة التي حملت التهديد والوعيد؟!.. المؤكد أن صورة المحامين والقضاة قد خدشت -للأسف الشديد- لدي الرأي العام.. وهذا بالضبط ما تريده الدولة وجماعة بعينها داخل الحكم.. لذا رفعت يدها فور نشوب الأزمة.. لأنها وجدت أن نتيجة صراع المحامين والقضاة يصب في صالحها مباشرة.. وتبرز جماعة الحكم في صورة أفضل أمام الرأي العام والذي تسلم رسالة مفادها.. أن تلك النخبة التي يسير الناس خلفها وقد أيدوها وانفعلوا بها السنوات الماضية.. هاهي تتعارك من تلقاء ذاتها.. بينما الحكم الذي يعارضه بعضهم لم يفعل ما يؤدي لنشوب مثل تلك المعركة.. والنتيجة أن الحكم قد كسب هذه المعركة مائة بالمائة لصالحه. ما يؤيد كلامي السابق هو إجابة السؤال التالي: هل كانت الدولة تستطيع حل الأزمة من اليوم الأول؟!.. الإجابة المؤكدة: نعم.. لكنها لم تفعل للأسباب السابق ذكرها.. والتي تصب في مصلحتها.. ولا تندهش من عقد رموز الحكم بعض اللقاءات بين قيادات القضاة والمحامين.. فهذا مجرد توزيع أدوار لاستهلاك الوقت.. ليس أكثر.