كنا ومازلنا نحلم بالديمقراطية في مصر، ومع النكسات الكثيرة والمتعددة التي أصابت الديمقراطية في مقتل في الفترة الأخيرة ظهر لنا شعاع ضوء في النفق المظلم يؤكد لنا أن فقدان الأمل في حياة ديمقراطية محترمة في مصر هو يأس تام، والمفروض أننا كمجتمع علينا أن نحتفي بالضوء الخارج لنا من النفق المظلم، وأن نفرح به. فلذلك لابد لنا اليوم أن نشيد بما حدث في حزب الوفد الجديد من انتخابات حرة نزيهة أطاحت برئيس الحزب وجاءت برئيس آخر، وبما أننا في مجتمع يتشبث فيه الجميع من الرؤساء بكراسيهم خارجين ألسنتهم لنا صارخين فينا أننا لانعي مقدار ما يقدمونه وأنهم لو تركوا أماكنهم لذهب الجميع إلي الجحيم، إذن لابد لنا اليوم أن نحيي أحد الرجال المحترمين الذي قدم لنا مثالا نادرا لديمقراطية نادرة في مصر وهو الأستاذ محمود أباظة، رئيس حزب «الوفد الجديد» السابق، ذلك الرجل الذي قدم من خلال معركته الأخيرة نموذجًا فريدًا ومحترمًا لمعركة ديمقراطية شرسة بينه وبين السيد البدوي لنكتشف في النهاية أن مقولة إننا شعب لا نستحق الديمقراطية هي مقولة زائفة لأن محمود أباظة أثبت من خلال معركته أننا شعب نستحق الديمقراطية لأننا نمتلك أفرادًا عقلاء حكماء ديمقراطيين قادرين علي أن يعطوا مثالاً نادرًا لذلك، فكان يمكن لمحمود أباظة أن يزوّر الانتخابات، ومعلوماتي الشخصية تؤكد أن الرجل تم عرض هذا الأمر عليه ورفضه بشدة. واللائحة الداخلية للحزب تمنحه الحق في أن يعين جزءًا مهمًا في الجمعية العمومية وهو خمس أعضاء الجمعية، ويصل هذا الرقم إلي 400 عضو، ومع ذلك رفض الرجل أن يأتي بأنصار معينين ليقفوا وراءه يوم الانتخابات، وكان يمكن له كباقي الرؤساء أن يتلاعب ولكنه أبي ذلك وأيضًا رفض أن يفعل ما فعله سلفه بتشكيل لجان نوعية متخصصة ممكن أن تصل إلي 25 لجنة بعشرين عضوًا في كل لجنة وبذلك يصل إلي 500 عضو وتكون لها أصوات والجمعية العمومية تقف معه في الانتخابات.. ومن نوادر محمود أباظة الديمقراطية التي لابد أن نذكرها أنه رفض توصيات لجنة الاتصال التي شكلها وانطلقت إلي مقار الحزب في كل أنحاء الجمهورية، ووصلت الزيارات إلي 150 مقرًا زارتها اللجنة وعرضت بعض المشاكل التي تواجهها هذه المقار وأعضاؤها، وكان أكثرها مشاكل إدارية، من عدم وجود أثاثات المقار، ورفض محمود أباظة أن يفعل ذلك، ومن الغريب أنه برر موقفه هذا بأنه يعتبر هذا الأمر رشوة انتخابية للوفديين حتي يمكن أن يعطوه أصواتهم، رفض بكبرياء المناضل الديمقراطي.. وقصته مع محمد عبدالعليم - عضو مجلس الشعب - تؤكد أن الرجل كان مثالاً نادرًا لرجل دمث الخلق، حيث هاجمه عبدالعليم في كل مكان باتهامات كثيرة لم يرد عليها إلا بكلمات هادئة وتمسك بأن يكون الفيصل في الخلاف هو الهيئة العليا للوفد بينما كان آخرون يصدرون قرارات الفصل النهائي في دقيقة واحدة ودون الرجوع إلي أحد، ونهاية محمد عبدالعليم في الوفد والتي كانت منذ أيام قليلة حيث تم إصدار قرار فصله من الحزب، تثبت أن حزب الوفد ليس رئيسًا فقط لأن ثلثي الهيئة العليا أعطوا أصواتهم ضد محمد عبدالعليم (مناصرة محمود أباظة)، بينما ثلث الهيئة العليا مع السيد البدوي، ولا يمكن لأحد من الذين حضروا الانتخابات السابقة أن ينكر أن الموكب الذي دخل به محمد عبدالعليم الحزب بعد إعلان النتيجة كان لا يعبر بأي حال من الأحوال عن فروسية بل كان عن شماتة غريبة (وأنا لا أنكر إعجابي بالنائب محمد عبدالعليم تحت قبة البرلمان).. إن ما فعله محمود أباظة في الانتخابات الأخيرة لحزب الوفد يستحق أن نرفع له القبعة ونحييه، ونؤكد أنه لو دفع حزب الوفد مئات بل ملايين الجنيهات من أجل أن يبيض وجهه في الشارع المصري وأن يقول للجماهير إنه حزب ديمقراطي ما كان نجح مثل نجاح خطوة محمود أباظة بالخضوع إلي القرار الديمقراطي، ليقود حزب الوفد السيد البدوي ويمتثل أباظة لرأي الجمعية العمومية ويترك رئاسة الحكم مثلما ترك «سوار الذهب» الحكم في السودان للشعب. علي فكرة أنا لست وفديا وإذا صنفت بآرائي فأنا رجل أعشق ثورة يوليو بإيجابياتها وسلبياتها، وأعشق ذلك الرجل العظيم جمال عبدالناصر، ولكن موقف أباظة لابد أن يشيد به الجميع.