سيكولوجية الديكتاتور تصنعها الشعوب، إنها الإفراز الطبيعي لمجتمع يؤمن في قرارة نفسه بأن الحاكم إله، أو نصف إله، أو علي أحسن الفروض بأنه ظل الله علي الأرض. وعلي أساس أن ذاكرة الشعوب ليست حذاء علي مقاس الحاكم، فإنه يأمر بإلقائها مع أوراقه القديمة في النار، يأمر بإحراقها مع كل ما في ماضيه المجهول من مساحات مبهمة، ليعيد كتبة الحاشية بالبلاط صياغة التاريخ بالشكل الذي يدغدغ شبقه إلي البقاء في السلطة إلي الأبد، اعتقال الناس أو تزوير الانتخابات يصبح دفاعا عن الديمقراطية، التعذيب حماية لأمن البلاد من أصحاب الأفكار الهدامة، إنجازات الآخرين ينسبونها إليه، أما الفساد أو الاستهتار بوحدة تراب الوطن أو كرامته أو مسلسل الهزائم علي جميع الأصعدة، فيجري توزيع المسئولية عنها بالعدل علي المحيطين الذين اختارهم هو بكامل إرادته، أو علي جهات غامضة يسمونها الأيدي التي تعبث في الظلام، وعلي منصات التكريم - أثناء الاحتفال بالنصر- يستخسر المهللون حتي تذكر الشهداء. وبما أن ذاكرة الشعوب هي الألبوم الخاص لجلالة الملك الرئيس الإله فرعون مصر المقدس، فلا يصح أن يضاف إليها إلا صوره الرسمية، أو كلامه عن الغد الأفضل الذي لا يأتي أبداً، ولا يجوز أن يظهر في أي مجال أحد غير سيادته. الأحداث العظيمة التي تستحق التذكر هي تلك التي تضفي علي طلعته البهية ما يليق بها من هالات المجد الأخري كلها من صنع القوي المعادية، التلاعب في ذاكرة الشعوب يلغي حتي المواقف الجديرة حقا بالاحترام. وقد تصورت دائما أن في تاريخ مصر - المترامي الأطراف - ذابت كل الحضارات، لكنها بقيت، كأنصع ما تكون، في ملامح المرأة، جبهة فرعونية وحاجبان فارسيان، أنف إغريقي وذقن سميراميسية ورموش من حيث لا يدري أحد، شعر روماني وغمازتان لأولاد وبنات من جزر أقضت بأغانيها المتحدية مضجع البحر، فابتلعها حتي لا يعلو صوت علي هديره المتوعد لحظة الغضب، عنق بألوان الطيف يمتد من الأرض إلي السماء، وشفاه بغدادية لأميرات من حواديت ألف ليلة، قبل أن يذهبن إلي سجن «أبو غريب»، عينان فاطميتان وطابع الحسن من مماليك بلا شجرة عائلة، خدان لرحالة أو قراصنة تاهوا في ليل الزمان، فآوتهم الإسكندرية بين ضفائرها، فم سندبادي و.. حزن بلا نهاية من 5 يونيو.