كنت أجلس في عيادة أحد الأطباء، والانتظار دائما في العيادات أو في تلك المواقف يخلق علاقات من الألفة، حتي ولو كانت دون حوارات متبادلة، لم أكن أراقب الحوار الذي بدأه أحد المرضي ويبدو من لهجته أنه قادم من سيناء وملامح وجهه وملابسه تدل علي أنه لا ريفي ولا صعيدي، انتبهت فجأة عندما سأل هذا الشخص السكرتيرة التي تتلقي المواعيد في العيادة: «بتقبضي كام؟» أشارت له الفتاة التي لا يقارب عمرها الثلاثين بيديها دون أن تنطق بكلمة، والحقيقة أنني لم أر يديها، ولكن واصل الرجل: تقصدي متين ولا ألفين؟!!! وهنا سمعت صوتها الذي ملأته نبرة عصبية ممزوجة بخجل وإحراج - خاصة أن الحوار كان علي الهواء أمام كل المنتظرين - حيث قالت: لأ.. متين!! ضغط الرجل أكثر علي الوجيعة ربما دون قصد: متين جنيه في الشهر؟ هنا علا صوت الفتاة بنبرة أكثر ثباتاً وكأنها تسخر من الرجل وتود أن تقول له: «إنت مش م البلد دي ولا إيه؟لكنها تماسكت وقالت: طبعًا يا سيدي في الشهر!!!!لا حول ولا قوة إلا بالله.. قالها مرتين.تدخل شخص آخر في الحوار قائلاً: «فيه ناس فاتحة بيوت.. رجالة بشنبات وما بيوصلوش للمبلغ ده؟إنت باين عليك مش معانا في البلد دي، ما بتقراش جرايد ولا بتتفرج علي التليفزيون.. البلد بتغرق يا عم. استمر الحوار متنقلاً بين الرجلين عن أحوال البلد، وأدركت أن السائل من قبيلة بجنوب سيناء ويعمل بالتجارة - علي حد تعبيره - وأنه لم يأت إلي القاهرة منذ أكثر من عشرة أعوام، وعندما وصل إلي القاهرة أمس وتجول قليلاً شعر وكأنه لم يزرها أو يعرفها من قبل! رغم أن الحوار عن أحوال المعيشة والفساد والفقر والحكومة أخذ حجمه العادي المتعارف عليه بين المرضي في جلسة الانتظار تلك، وتطرق الأمر إلي المظاهرات ثم عن إسرائيل، وأخذ كل منهم يدلي بدلوه في تلك المسائل التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حديث المصريين الذين لا يعالجون أنفسهم بمثل هذه الجلسات النفسية المسماة «بالفضفضة»..، أكاد لم أسمع حديثهم، فقط كنت أراقب إيماءاتهم وحماسهم، وإحباطاتهم.. كنت أراقب عيونهم الواثقة بأن الحديث سينقطع بعد دقائق عندما يدخل أحدهم إلي الطبيب ليبدأ هماً جديداً أو رحلة جديدة في المرض، لكن أكثر ما شغلني وأثر فيّ وأوجعني هو ما قاله الرجل البدوي: «مشيت يا أخي في شوارعكم شوي وقعدت علي مقهي.. كأني ما زرت بلدكم دي من قبل ولا كأني أعرفها!!!! لفت انتباهي أنه يقول شوارعكم.. بلدكم!! ورغم أنني وبشكل تلقائي قلت في نفسي: مش إنت لوحدك إللي حاسس كده!!إلا أنني وددت لو أقول له: ومن أين أنت إذن إذا كانت هذه بلادنا وشوارعنا وحدنا؟ لكن ما قاله الرجل إشارة أعمق إلي بعض التساؤلات:هل صحيح أننا نعرف هذا البلد؟ هل صحيح أننا نفهم ماذا حدث ويحدث فينا وحولنا؟ هل صحيح أننا نشعر وكأننا غرباء؟ هل صحيح أنك تصاب من وقت لآخر بشعور الغربة أم أنك مش م البلد دي؟ وهل كل هؤلاء المنتظرين سواء في العيادة أو في طابور الوطن شاعرين أنهم م البلد دي؟ هي فين البلد دي؟ أليست هذه الجملة تصادفك كثيرا وتصطدم بها عندما يفيض الكيل بك أو بغيرك فنصرخ قائلين: هو إحنا في بلد؟ دي شبه بلد.. دي عزبة.. دي وسية.. تكية.. دي بلدهم مش بلدنا.. هو إحنا لنا نصيب فيها غير الفقر والإهانة وانعدام الكرامة والظلم والفساد.. هم بيحسبوها ليه علينا بلد.. ناقص يدفعونا عليها ضرايب ويقولوا «ضريبة مواطنة».. ألم تصطدم بمثل هذه التعليقات والمرارات التي يطلقها أغلب المصريين المنتظرين.. منتظرين بلداً تحميهم وتحبهم وتحترمهم.. منتظرين بلداً يعرفونها ويشعرون أنهم أصحابها الحقيقيون.أليس شيئاً مفزعاً أن تشعر أنك يا ابن بلدي مش م البلد دي؟ أن تشعر أنك غريب وتائه ومنعزل؟ أنا علي يقين بأن هناك هوة كبيرة تتسع وتتسع بيننا وبين مصر، وكأن هناك علاقة انفرطت «متي» وكيف حدث؟ لا أعلم!!!فجأة صوت رنين موبايل عالٍ بنغمة تقول: «شخص رزل بيطلبك.. ما تردش.. ما تردش» يقطع كل الحوارات.. وينقلب الهم إلي ضحك وتعليقات ساخرة من المنتظرين. يطلب أحدهم من صاحب الموبايل أن يرسل له النغمة.. وفي لحظات تحول الحديث إلي أنواع الموبايلات والجديد في عالم الرنات.أما السكرتيرة - في محاولة ما لرد الاعتبار - هكذا شعرت - قالت للرجل البدوي: اشمعني أنت ما قلتليش بتاخد كام في الشهر؟