ليس سرا أن جدلا قويا يدور داخل عدد من الأحزاب السياسية التي تحسب نفسها على التيار المؤيد لثورة 25 يناير، وترغب في بناء نظام مدني ديمقراطي يقوم جوهره على العدالة الإجتماعية، بشأن الموقف الذي ستتخذه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. والجدل الدائر داخل أحزاب مثل الدستور والمصري الديمقراطي الاجتماعي وأحزاب اليسار كالتحالف الاشتراكي والعيش والحرية، وربما في التيار الشعبي نفسه، وكذلك عدد من الحركات الشبابية ك 6 ابريل وغيرها، لا يتعلق بالاختيار ما بين تأييد المشير السيسي أو حمدين صباحي. بل هو ما بين المشاركة ودعم صباحي باعتباره المرشح المدني الرئيسي الذي تقدم لخوض هذه المعركة الصعبة، أو الدعوة للمقاطعة والتزام المنازل نظرا لأن ما سنشهده في 26 مايو المقبل هو عملية انتخابية نتيجتها معروفة سلفا ويتم الاعداد لها منذ شهور لصالح المشير السيسي. واعتقد أن أي مراقب موضوعي سيتفق على أننا نشهد انتكاسة حقيقية في مجال بناء النظام الديمقراطي الذي كنا نصبو له ونتمناه عندما صمد ملايين المصريين على مدى 18 يوما في 25 يناير 2011 مطالبين برحيل الرئيس المخلوع حسني مبارك، سواء بسبب فشل المجلس العسكري في إدارة شئون البلاد على مدى عام ونصف العام وتمسكه بالولاء للنظام القديم الذي ترعرع في ظله، أو التجربة المريرة التي خضناها في ظل حكم الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي ودفعنا دفعا نحو حرب دينية وطائفية بسبب قلة خبرته ورغبة جماعته في الهيمنة على الحكم، ونتيجة لقرار المشير السيسي ترشيح نفسه للرئاسة ليتكرر نمط الحكم الذي عرفناه في مصر منذ ثورة يوليو 1952، وهو أن يأتي رئيس من داخل المؤسسة العسكرية ليتبوأ ذلك المنصب باعتباره الأكثر قدرة على إدارة شئون البلاد، خاصة بعد ثلاث أعوام من غياب الأمن وانهيار الاقتصاد ووسط موجة إرهابية مجرمة.
وبعد أن شهدنا إزدهار في ظهور أحزاب جديدة بعد ثورة 25 يناير على إثرفك القيود الرهيبة التي أقامها نظام مبارك على إنشاء الأحزاب على مدى ثلاثة عقود ، وتم كسر حالة الجمود التي فرضها مبارك على الحياة السياسية، وبدأت بعض هذه الأحزاب في التواجد على الأرض ولعبت دور هام في حشد المواطنين على مدى عام كامل لمقاومة توجهات الرئيس السابق مرسي، نواجه الآن حالة من الهجوم الشرس على كل الأحزاب السياسية، والزعم أنها ضعيفة ولا تواجد لها على الأرض، وسط سعي لوأد تجربة ما تزال جديدة من الأساس وتجاهل أن غالبية الأحزاب لم يتجاوز عمرها عامين. وبعد مرور تسعة شهور على 30 يونيو، وخريطة الطريق التي كانت تنص على إجراء انتخابات تشريعية أولا، لم يصدر حتى الآن القانون المنظم للانتخابات البرلمانية، وتشير معظم التوقعات إلى أن النظام الانتخابي الذي سيتم اتباعه سيميل لصالح النظام الفردي التقليدي الذي اعتدنا عليه، وذلك لكي يكون لدينا برلمان شبيه بذلك الذي عهدناه في زمن مبارك، والذي يشكل تقديم الخدمات والفوز برضا الحكومة الهم الأكبر لغالبية أعضاءه.
وبعد أن كان لدينا ثلاثة عشر مرشحا يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي في مصر في الانتخابات الرئاسية عام 2012، ما بين مؤيدين للدولة القديمة كأحمد شفيق وعمرو موسى، والتيار الديني كممثل الإخوان الرئيس السابق مرسي ود. عبد المنعم ابو الفتوح، وقومي يميل نحو اليسار كحمدين صباحي، وسط حياد نسبي من مؤسسات الدولة وأجواء تم السماح فيها لكل المرشحين بالتحرك بحرية للدعاية لبرامجهم، نواجه الآن أجواء ينحصر فيها السباق الرئاسي ما بين المشير السيسي الذي يحظى بدعم طاغ من مؤسسات الدولة، والمرشح صباحي الذي تخلى عنه تحت بعض المقربين منه لقناعتهم بأن المعركة محسومة سلفا لصالح المرشح الذي حظى بدعم المجلس الأعلى للقوات المسلحة في بيانه الشهير في 27 يناير الماضي والذي أشار فيه إلى أنه "يتطلع باحترام واجلال لرغبة الجماهير العريضة من شعب مصر العظيم في ترشيح المشير عبدالفتاح السيسي لرئاسة الجمهورية، وهي تعتبره تكليف والتزام."
وبعد أن كان أنصار المشير مصممين على أن يخوض المعركة منفردا باعتباره مرشح الإجماع الشعبي، يبدو أن هناك من أقنعهم أن القيام بذلك لن يكون في صالحه، ولن يتقبله العالم الخارجي. ورغم أن أيا من فكر في التقدم للترشح في الانتخابات كان يعلم أنه يقدم على مهمة شبه مستحيلة، فإن صباحي وحملته لم يسلموا من حملات التشويه المنظمة والتعطيل في اصدار التوكيلات المطلوبة لدعم ترشحيه، بل والضرب والاعتداء أحيانا كما حدث في الإسكندرية مؤخرا.
شخصيا، أصدق نوايا المرشح صباحي، وأنه يرغب في خوض معركة جادة وليس مجرد مظهر ديكوري لتحليل الفوز المتوقع للمشير. وبالتالي، لا أتفهم كثيرا وجهة النظر الداعية للمقاطعة وأن تفوت الأحزاب السياسية الجديدة الناشئة فرصة لكي تمارس العمل على الأرض وتسعى من خلاله إلى إقناع المواطنين بوجهة نظرها التي تدعوها لدعم مرشح مدني يساهم في إحداث نقله في نمط النظام السياسي الذي عرفناه على مدى العقود الستة الماضية.
لن تكون هذه مهمة سهلة، ويجب على الأحزاب السياسية، وعلى رأسها تلك المؤيدة لحملة المرشح صباحي، أن تبقى متيقظة تماما لكل المخالفات المتوقعة التي تمس بفرص عقد انتخابات حرة ونزيهة. ولو تم التيقن بالفعل أن النية غير متوفرة لضمان الحد الأدنى من النزاهة، وأنه لن يتم السماح للمعارضين لترشيح السيسي بفرص متساوية للتعبير عن وجهة نظرهم، فحينئذ يكون قرار المقاطعة جماعيا، وليتم تطبيق تلك المادة العجيبة الغريبة من قانون انتخابات الرئاسة والتي تنص على إعلان المرشح الوحيد فائزا فقط بحضور اتنين ونص في المائة من الناخبين. هنيئا مريئا، ولكن لن تكون هذه الجولة الأخيرة بكل تأكيد.