إن قارتنا الأفريقية تواجه تحديات كبيرة، أغلبها ورثناه عن الحقبة الاستعمارية، وبعضها كامن في جذور تراثنا تراكم عبر الزمن وتفجر في لحظات الضعف. لقد ترك لنا الاستعمار ميراثا مثقلا بالمشكلات في القارة، وقد نجحنا في تجاوز بعضه، لكن مشكلات جديدة ظهرت مع سنوات الاستقلال وتفاقمت، خرج الاستعمار وترك انقسامات عرقية وقبلية في كثير من بلدان القارة، وانقسامات دينية أحيانا في بعض هذه البلدان، وقد أدت هذه الانقسامات إلي حروب أهلية سقط فيها مئات الألوف من الضحايا وشرد ملايين اللاجئين عبر الحدود وأُهدرت الموارد وسقطت مؤسسات الدولة المدنية الحديثة، وتداخلت الحروب الأهلية بالحروب الإقليمية بين دول القارة بسبب تداخل الامتدادات العرقية والقبلية عبر الحدود التي ورثتها القارة عن الحقبة الاستعمارية، وأقرتها منظمة الوحدة الأفريقية باتفاق دولها عند تأسيسها في محاولة لتلافي انفجار الصراعات بين دول القارة. وإذا نظرنا إلي حال قارتنا في هذا العام الذي يمر فيه نصف قرن علي موجة الاستقلال الكبري لدول القارة سنجد حال القارة لا يسر، أفريقيا الغنية بمواردها وثرواتها تعجز شعوبها عن الاستفادة بتلك الموارد الضائعة المهدرة بين الفساد والصراعات والحروب، الأمراض والأوبئة تفتك بشعوب القارة، وبدلا من أن نصارعها نتصارع فيما بيننا. وإذا كان الساسة قد عجزوا علي مدي نصف قرن من الاستقلال عن تجاوز تلك المشكلات، بل ربما فاقموها، فإن المثقفين قد يكون لهم دور في انطلاق القارة انطلاقة جديدة، وربما كان هذا التصور وراء اهتمام الاتحاد الأفريقي الذي حل محل منظمة الوحدة الأفريقية إلي الاهتمام بالعمل الثقافي بصورة واضحة. وأظن أنه يقع علي مثقفي القارة ومبدعيها عبء التصدي لكثير من هذه المشكلات من مدخل الثقافة، عليهم أن يسعوا لامتلاك زمام المبادرة من أجل تجاوز العوائق التي تقف أمام مسيرة شعوبنا، خاصة أن ثقافتنا تشكل ميزتنا التنافسية الأساسية في عالم اليوم. إن الثقافة قوة دافعة للمجتمعات تمكننا من التصدي لكثير من المشكلات التي تواجهنا، فالثقافة أداة لتحقيق المشاركة المجتمعية وتنمية شعور الانتماء وتفعيل قيم المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، والثقافة أداة لنشر قيم التسامح وقبول الآخر المختلف عرقيا وقبليا ودينيا، والثقافة مدخل للترويج لقضايا النوع الاجتماعي عبر تقديم رسالة ثقافية تعلي من قيمة المرأة ودورها في بناء المجتمع وفي تحقيق التنمية الشاملة، وهي في الوقت ذاته وسيلة لتأهيل الشباب والأطفال والأجيال الجديدة عمومًا للمشاركة المجتمعية عبر الثقافة، من خلال إدماجهم في الأنشطة الثقافية المختلفة، ومن خلالها يمكن المساهمة في خلق فرص جديدة للعمل والاستثمار من خلال التدريب الحرفي وتنمية المهارات للشباب في مجال الصناعات التقليدية والتراثية، بما يضمن الحفاظ علي هذه الصناعات وعدم اندثارها من ناحية، ومواجهة البطالة بإتاحة فرص الاستثمار في المشروعات الصغيرة أمام الشباب من ناحية أخري. وإذا كان عصر العولمة قد شكل تحديًا جديدًا يضاف إلي تحديات كثيرة واجهناها، فيجب أن نجعل من معطيات العولمة فرصة جديدة تتيح لمثقفينا التعامل مع مشكلات القارة، وتتيح لثقافاتنا في القارة الأفريقية المزيد من الحضور العالمي والإسهام في رقي الإنسانية، إن قارتنا التي شهدت عبر تاريخها الممتد حضارات أسهمت في التراث الإنساني العالمي إسهاما إيجابيا فعالا تملك من الرصيد الحضاري والثقافي ما يؤهلها لمواجهة تحديات العولمة من خلال إنتاج ثقافي قوي يؤكد هويتها ويعزز مقومات شخصيتها، وتدافع عن خصوصيتها في ثقافة العصر الجديد وقيمه، لقد أصبحت الثقافة في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الجديدة رهانا ينبغي كسبه، فثورة الاتصالات التي حولت العالم إلي قرية كونية صغيرة تفرض علينا أن نواجه التحدي الذي تفرضه والمتمثل في سيادة ثقافة الأقوي تقنيا، خاصة بعد أن أصبحت الثقافة والمعرفة في الوقت الراهن قوة وسلطة وسلعة تفرض سيطرتها وتصدر عبر أنحاء العالم بواسطة الأقمار الصناعية من خلال الفضائيات والإنترنت، وأصبحت الصناعات الثقافية ذات مردود اقتصادي كبير يفوق أحيانا عائد الصناعات التقليدية، إن المجتمعات النامية تواجه تحديات كبيرة تفرضها طبيعة الاقتصاد العالمي الجديد القائم علي تقنية الاتصالات، وإذا لم نقم صناعاتنا الثقافية علي أساس قوي فلن تقوم لنا قائمة، لكن هذا الأساس القوي لن يتحقق إلا بمزيد من الحرية الفكرية والشفافية، وبالتعاون بين الدول والمؤسسات الأهلية والمؤسسات الاقتصادية العاملة في مجال الصناعات الثقافية، وباحترام مبادرات المجتمع المدني، وبإشاعة ثقافة التسامح وتقبل الآخر، والاعتراف بالتنوع الثقافي الذي يعتبر من خصائص قارتنا، والتعددية التي نستطيع بجهودنا أن نجعل منها عنصر قوة وثراء، بدلا من أن تكون عنصر ضعف وانقسام. لكل هذا تأتي أهمية عقد المؤتمرات والملتقيات الثقافية التي تجمع المثقفين من مختلف بلدان القارة، لتحقيق التفاعل فيما بينهم، ولنناقش في قضايا واقع قارتنا الثقافي وطرح التصورات المختلفة من أجل مستقبل أفضل لأفريقيا ومن أجل مكانة تليق بهذه القارة.