عندما أصدر موسوليني - رمز الفاشية - في العالم قراره بإقامة أول مهرجان سينمائي عالمي كان قراراً يحمل اسم «البندقية فينسيا» كان سياسياً بالدرجة الأولي أراد من خلاله أن يؤكد أن دول المحور بزعامة ألمانيا وإيطاليا هي عنوان الثقافة في أوروبا.. وتتابعت المهرجانات مثل «كان» في فرنسا الذي كان يمثل الوجه الآخر الذي يعبر عنه الحلفاء، ثم برلينوألمانياالغربية ثم لوفتهانزا في ألمانياالشرقية.. مع الزمن كان ينبغي ألا تصبح المهرجانات هي صوت فقط لأصحاب القرار السياسي كان عليها ألا تعبر سوي عن نفسها وليس عن الدول التي تمثلها. عالمنا العربي لم يبتعد عن ذلك الأمر كثيراً، حيث بدأت المهرجانات وهي تحمل توجهات سياسية مثلاً مهرجان القاهرة الذي انطلق عام 76، كانت بدايته من خلال جمعية كتاب ونقاد السينما، حيث كان مؤسسها ورئيسها كمال الملاخ وتولي الرئاسة الشرفية يوسف السباعي - وزير الثقافة - في تلك السنوات والهدف من إنشاء المهرجان الدولي لأول مرة كان أيضاً سياسياً، وذلك حتي لا تسبقنا إسرائيل وتقيم مهرجاناً يحظي قبلنا بالاعتراف الدولي. في مرحلة القطيعة السياسية بين مصر وسوريا ظهر تعبير السينما البديلة انطلق من مهرجان دمشق في نهاية السبعينيات وذلك احتجاجاً علي اتفاقية كامب ديفيد.. أيضاً كان الهدف من ترديد نغمة السينما البديلة هو التأكيد أن هناك سينما أخري عربية من الممكن أن يتابعها المتفرج العربي بدلاً من الأفلام المصرية التي كانت وقتها ولاتزال تحمل اسم الفيلم العربي!! السياسة ربما تصلح كنقطة انطلاق ولكن تظل هي المسيطرة علي فعاليات المهرجانات، إلا أنه أيضاً لا أحد يستطيع أن يصدر قراراً بالفصل التام بين السياسة والثقافة.. لأن التعبير الثقافي ينطوي علي موقف سياسي ما دفعني إلي هذه المقدمة التي طالت أكثر مما ينبغي إن الحركة السياسية احتلت المساحة العريضة في مهرجان «كان» هذه الدورة.. ما بين موقف للمهرجان مع «جعفر بناهي» المخرج الإيراني المحبوس، وبالتالي الممنوع من مغادرة بلاده لكي يمارس مهامه كعضو في لجنة التحكيم.. وأيضاً تقديم عدد من الأفلام التي تحمل مواقف سياسة مثل «طريق أيرلندا» كين لوش الذي يدين التورط الأمريكي والأوروبي في غزو العراق، مؤكداً أنها صفقات مادية هي التي شكلت الدوافع الحقيقية للغزو ورشيد بوشارب الذي قدم فيلمه «خارج عن القانون»، فأثار غضب اليمين الفرنسي قبل حتي أن يشاهدوا الفيلم وبحجة أنه يدين فرنسا والمخرجة الإيطالية «سابينا جوزانتي» تفضح رئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني وتسخر منه.. والحقيقة أن هذه الأفلام وغيرها هي التي تشكل روح السينما في العالم كله ولا يمكن أن نطالب مخرجاً بألا يتطرق إلي قضية سياسية، وبالتالي لا نطالب أيضاً المهرجان بألا يعرض أفلاماً سياسية إلا أنه في كل الأحوال لا يعلو صوت السياسة علي صوت الفن أي أن الاختيار أولاً للقيمة الإبداعية قبل التوجه السياسي للعمل الفني.. كما أن علي المهرجان أن يؤكد مبدأ الحرية فهو مع حرية الفنان في التعبير حتي لو انتقد الأوضاع السياسية في بلده، ولهذا لا أتصور مثلاً أن إيطاليا سوف تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع فرنسا بسبب فيلم «دراكولا» الإيطالي.. هذا الفيلم قبل أن يجد طريقه لمهرجان «كان» استقبلته أكثر من دار عرض في إيطاليا.. بل أكثر من ذلك فإن إيران لم تتخذ موقفاً ضد «كان».. والدليل أن الجناح السينمائي التابع لوزارة الثقافة الإيرانية لايزال له مكان في السوق، وعندما سألت المسئول عن هذا الجناح قال لي: «نحن في السوق نعرض أفلامنا ونسوقها ولسنا طرفاً في معركة مع مهرجان «كان»!