حين اقترحت فكرة عدم خوض الإخوان الانتخابات لمده 20 عاماً كنت أنظر إلي واقع العمل الإصلاحي في مجالاته المتعددة علي المدي الطويل في جانبه الدعوي والسياسي وقد تصور البعض وقتها أنني ممن يفرقون بين الأثنين، وهو أمر غير صحيح؛ فدعوة الإخوان المسلمين كما نفهم جميعا تدعو إلي الإسلام كما هو امتثالا لأمر الله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) وبالتالي فلا يملك أحد أياً كان أن يتعامل مع النصوص إلا بالطاعة والتسليم وإلا فلا إسلام. شمولية الإسلام إذن للتعامل مع الشأن العام(مجتمع ودولة)ليست محل جدل. وغني عن البيان بهذا الصدد أن هناك تمييزاً في الممارسات بين مجالات الرعاية للشئون المتعددة في المجتمع، هذا التمييز يثبت التناصح والتفاهم بين القائمين بهذه الشئون؛ فالتربوي يقدم رؤيته للإعلامي، والاقتصادي يقدم رؤيته للتربوي، والفقيه يقدم رؤيته للسياسي، والسياسي يقدم رؤيته للاقتصادي.. وهكذا في تناغم وتوافق لصالح الدنيا والدين.ليس هناك ولاية من أحد علي أحد. كما أن هناك ثوابت ونصوصاً تعبرعن الضمير العام للمجتمع - يضمها دستور - ولا يمكن لأحد تجاوزها..وعموما ما أمر الله بشيء إلا وأعان عليه وما نهي عن شيء إلا وأغني عنه، كما كان يقول أفقه الصحابة لكتاب الله عمر بن الخطاب. التمييز إذن بين العمل الدعوي والعمل الحزبي أمر مهم، وتشير تجارب كثيرة إلي إيجابيته وفائدته الكبيرة لكل المجتمع.وقد ذكر لنا المستشار طارق البشري أن الأستاذ البنا كان قلقا من تداخل الممارسات بعضها بعضا، وكان يقول للمقربين منه إن (الحمل ثقيل)..وكان يفكر في أن يرعي الحزب الوطني جانب الممارسة الحزبية بما فيها من انتخابات وترشيحات وتحالفات ومشاركة في حكومات ائتلافية، وكل ما يتصل بهذا المجال.هذه الفكرة لم تدخل حيزالتطبيق لتداعي الأمور بعد حرب فلسطين علي ما نعلم جميعا.وكان الأستاذ العلامة فريد عبد الخالق دائم النقاش مع الأستاذ البنا في كل الأمور التي تتعلق بسيرالدعوة ودار بينهما نقاش في هذا الموضوع..فكان رأي الأستاذ البنا والذي طرحه علي الأستاذ فريد في صورة تساؤل(هل يتحول دورنا إلي ما يشبه الجمعية الفابية وحزب العمال في انجلترا؟). والجمعية الفابية حركة نشأت في انجلترا سنة 1884 تدعو إلي العدالة الاجتماعية بعيدا عن رطانة الماركسية وصراع الطبقات وبعيدا عن توحش الرأسمالية واستغلالها..وانضم إليها عدد كبيرمن المفكرين الإنجليز منهم الكاتب برنارد شو، وتحولت هذه الجمعية إلي الهيئة الأيديولوجية لحزب العمال. وواضح من الحديث أن الأستاذ البنا كان يريد لجماعة الإخوان أن تكون هيئة فكرية وأيديولوجية تقف خلف حزب سياسي، وهو ما لم يتم حتي الآن في تاريخ جماعه الإخوان المسلمين.ولعل الظروف تتيح القيام بهذا التطور القديم..الجديد خلال الفترة القادمة. الآن البلاد مقبلة علي انتخابات في مجلسي الشوري والشعب وقد قررت جماعة الإخوان خوض هذه الانتخابات استنادا إلي استراتيجية متفق عليها بضرورة المشاركة في كل الانتخابات وهي الاستراتيجية التي تري أن العمل الدعائي في الانتخابات يتيح الفرصة للإخوان للتواصل مع المجتمع وتعريفه بحقوقه وواجباته ودورالفرد كمواطن صالح فيما ينبغي عليه أداؤه تجاه وطنه.. ومن جانب آخر تتيح الفرصة للفائزين من الإخوان أن يقوموا بدورهم المنوط بهم داخل هذه المجالس سواء في التذكير بأهمية المرجعية الإسلامية للقوانين والتشريعات أوفي القيام بالدور الرقابي والمحاسبي الذي تقوم به البرلمانات في كل البلاد المتحضرة. وعليه فيجب علينا جميعا أن ننتهز هذه الفرصة ونزيد من الحركة بين الناس داعين إياهم إلي المشاركة الكاملة في هذه الانتخابات وأن يكونوا حراسا لأصواتهم فلا يتلاعب بها أحد لا بالتغريرالكاذب ولا بالتزويرالسافر.ولعل في هذه الحركة أيضا ما يحرك ضمائر المزورين إلي اجتناب كبيرة من الكبائرالسياسية والدينية وهي التزوير.. وهكذا فاليأس والقنوط لا مكان له في نفوس الإخوان المسلمين مهما طال المسير ومهما كانت العقبات. فما نرجوه من القيام بالشأن الإصلاحي هو تحرير الناس من المظالم والمساوئ التي أحاطت بهم من كل جانب وباعدت بينهم وبين مقتضيات الحياة الكريمة التي أرادها لهم خالقهم وهو الرجاء الذي نتعبد به إلي الله ابتغاء وجهه الكريم (وما لأحد عنده من نعمة تجزي إلا ابتغاء وجه ربه الأعلي ولسوف يرضي) وحبا لوطننا وأهلينا ليكونوا في مكانهم اللائق بهم بين باقي الدول والمجتمعات.وكفي ما وصلت إليه الأمور من ترد وتراجع لمصر الحبيبة سواء في شئونها الداخليه أو في شئونها الإقليمية..وهل ما يحدث في مسألة منابع النيل الآن إلا مظهرا من مظاهر هذا التردي والتراجع واسستسلام المسئولين إلي إغراءات الراحة البليدة. فلننتهز الفرصة ولنسر بين الناس في المدن والقري والنجوع داعين إياهم إلي الانتباه لمستقبلهم ومستقبل أبنائهم فلم يعد هناك وقت لمزيد من الغفلة.