خرج علينا بيان صادر عن أعضاء مجلس نقابة الصحفيين يطالبنا بأن نتوافق ونوقف الجدل بشأن زيارة عدد من أعضاء المجلس إلى القدسالمحتلة بعد الإفادات الوافية والتوضيحات الكافية التى قدموها، والتى تؤكد حرصهم على الالتزام بجميع قرارات الجمعية العمومية والمواقف النقابية المستقرة فى هذا الشأن! بدون مقدمات لا يمكن أن نتوافق وقد تحول التحقيق إلى لجنة ودية للاستماع، هدفها تسوية الموضوع، وبمنطق أن الشريف لا يقام عليه الحد، وهو ما جعل أحد الزملاء أعضاء المجلس يصرح أكثر من مرة بأن الاستماع للزملاء لا يعنى توجيه أى اتهام إليهم، وهو عكس القاعدة القانونية التى تقتضى أن أى متهم برىء حتى تثبت إدانته.. وتوجيه الاتهام لا يعنى الإدانة المسبقة، لكنها التصريحات التى تفصح عن النيات التى ساندت خروج بيان يقول «فضّوها سيرة». لا يمكن أن نتوافق على نتائج أعمال لجنة جرت أعمالها فى سرية وبصمت مريب، مع أن العلنية جزء من شروط تحقيق العدالة، ومنها أيضا الاستماع إلى أصوات المحتجين، وفحص كل ما نُشر عن ملابسات هذه الزيارة فى الصحف ومواقع التواصل الاجتماعى، وهى متاحة للجميع، وفيها من الإفادات والتوضيحات غير ما أتت بها الدردشة العائلية فى الجلسة الودية! لا يمكن أن نتوافق، لأن الذين طلعوا علينا بهذا البيان قايضونا بأن يكون ثمن صمتنا فى الدفاع عن أحد أهم قرارات الجمعية العمومية بحظر جميع أشكال التطبيع مع العدو الصهيونى هو التفرغ للاستحقاقات العاجلة التى تمس المهنة والمشتغلين بها. وسبحان مغير الأحوال فقد كانت الأنظمة العربية تحترف استخدام القضية الفلسطينية لصمت الشعوب عن حقوقها ومطالبها، وانقلبت الآية ليصبح الجدل حول انتهاك قرارات هدفها المقاومة الشعبية ودعم القضية الفلسطينية تعطيلا للدفاع عن الحقوق والمطالب! لن نتوافق، لأن البيان الذى صدر لم يحاول تحقيق الحد الأدنى من احترام عقل المتلقى له، فهو يتحدث عن أن زيارة الزملاء أعضاء المجلس «إلى دولة فلسطين» تمت بموافقة من مجلس النقابة، ولم يقل لنا أحد ما كانوا يقولونه من قبل أن الزيارة كانت إلى رام الله وليست إلى القدسالمحتلة، فهل اعتمد المجلس تفسيرا جديدا للتطبيع أصبح يتسع ل«دولة فلسطين» التى لا نعرف ما حدودها طبقا للبيان أم أن أرض فلسطين التاريخية تحررت من دنس الاحتلال الصهيونى بعد زيارة الوفد لها عبر عملية التسلل التى جرى ترتيبها، ومن دون علم سلطات الاحتلال وبرعاية عناصر من المقاومة الفلسطينية على حد قول البيان! وهو خيال محمود، لكنه ليس فى موضعه، خصوصا أنه قد فاق خيال الأديب الراحل صالح مرسى، مؤلف «رأفت الهجان»! لن نتوافق، لأننا لم نعرف حتى الآن ما هدف هذه الزيارة؟ هل هو سياسى أم مهنى أم نقابى؟ وهل كان ضمن خطط الوفد القيام بعمليات فدائية لالتقاء عدد من أُسر الأسرى والتعرف إلى أحوال المواطنين الفلسطينيين؟! وهل الزيارة بدعوة من نقابة الصحفيين الفلسطينيين أم وزارة الشباب التى يتولاها جبريل الرجوب (وما أدراك ما الرجوب) الذى كان يتولى رعاية حصار الزعيم الراحل ياسر عرفات فى رام الله، والذى حاول مرارًا أن «يجر رجل» بعض التجمعات فى مصر للذهاب إلى «دولة فلسطين» ومنها المنتخب القومى لكرة القدم!
لن نتوافق، لأن البيان الذى قدم كل مبررات اتخاذ قرار توجيه الاتهام بانتهاك قرارات الجمعية العمومية هو الذى انتهى إلى تأكيد حرص هؤلاء الزملاء على الالتزام بجميع قرارات الجمعية العمومية والمواقف المستقرة فى هذا الشأن، وكأن لهؤلاء الزملاء «الشرفاء» من أعضاء المجلس تفسيرا خاصا بهم استخدموه بعد 34 عاما من قرارات كانت تصاغ بالضمير الوطنى للأغلبية من جموع الصحفيين ولم تكن تصوغها المواءمات والدروس عن المستجدات، وكأن قدر مصر بعد ثورتين أن ترضخ للتطرف الإسرائيلى وأن يساق بعض من أنبل أبنائها وشبابها وثوارها إلى حيلة «تعالوا نعيد النظر فى تعريف التطبيع». ولا يمكن لأى ثورة حقيقية أن تنزع من روح أى شعب السيادة والوطنية، ولا أن يتخلى أصحاب مهنة الضمير عن أن يكونوا صوت شعبهم. لن نتوافق، لأننا بالإرادة المشتركة داخل جمعياتنا العمومية التى صاغت هذه القرارات وطبقتها على مدى العقود الماضية ليس من حق أحد أن ينفرد بغيرها لحين العودة لأصحاب هذا القرار.
لن نتوافق، لأنه قد سبق بيانكم بيان مهّد له- وهذا هو الأخطر- صادر عن اتحاد الصحفيين العرب، وهو بيان كارثى كان، ولا يزال، يتطلب الرد واتخاذ موقف من النقابة، وهى النقابة المؤسسة لهذا الاتحاد منذ العام 1964، الذى تولى رئاسته قامات مثل حسين فهمى وأحمد بهاء الدين وكامل زهيرى، وانتهى إلى أحمد يوسف بهبهانى رجل الأعمال الكويتى الشهير! هذا الاتحاد الذى انتقل من مصر إلى بغداد عام 1979 بعد ذهاب الرئيس السادات إلى «إسرائيل» وخطابه فى الكنيست وزيارته للقدس ها هو بعد أن عاد إليها يصدر بيانا يبارك التطبيع ويدعو إليه تحت مبررات «تطور الأوضاع الديموغرافية وسياسة التهويد الممنهجة، ولمزيد من دعم الشعب الفلسطينى والابتعاد عن الخطب والاستنكارات واستبدال أفعال تجبر الاحتلال على التراجع بها»، ووصل الحماس بالبيان التطبيعى لدرجة اعتبر فيها زيارة الوفد المصرى للقدس «انتصارا للشعب الفلسطينى وصفحة ناصعة البياض فى النضال ضد المغتصب!».
إذن نحن نستدرج إلى «خطة» وليس «خطأ» ارتكبه بعض الزملاء، خصوصا إذا علمنا أن زيارة الوفد المصرى كانت مقدمة لوفود عربية أخرى، وأن اتحاد الصحفيين العرب- الذى لم يعرف آلاف الصحفيين فى مصر أين يقطن بها أو ماذا يفعل ولحساب من يدار ولصالح من تصب قراراته- قد قرر عقد اجتماع الأمانة العامة للاتحاد فى أبريل القادم برام الله، ومنها بالطبع إلى «دولة فلسطين» حسب بيان مجلس نقابتنا، أو «الأراضى الفلسطينيةالمحتلة» حسب بيان الاتحاد. هذا الاتحاد الذى كان يحاسب أى نقابة لا تتخذ الإجراءات التأديبية ضد أعضائها الذين ينتهكون قرار حظر التطبيع، والذى رفض دعوات «الرجوب» المتكررة التى يقدمها نقيب الصحفيين الفلسطينيين، أيًّا كان اسمه ويسعى إليها فى كل اجتماع، لكن كان ذلك عندما كان صلاح الدين حافظ حارسا أمينا، هذا الاتحاد الذى أوصى- قبل ثورة الاتصالات والمعلومات- بأن تناشد النقابات الصحف العربية باعتماد مراسلين لها من الصحفيين الفلسطينيين الموجودين بالداخل، والذين يعانون الاضطهاد وإغلاق صحفهم بدلا من إرسال أحد بزعم المهنية.
هذا الاتحاد الذى يدعونا الآن للتطبيع لدعم الشعب الفلسطينى وقضيته، لا يستمع ولا نقابتنا المصرية أيضا لأصوات رموز فلسطينية تعيش فى الأراضى المحتلة ترى أن هذه الزيارات تكريس للاحتلال ودعم لإسرائيل، وهذا ما صرح به على سبيل المثال الدكتور عبد الستار قاسم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة «نابلس»، الذى وصف زيارة بعض الزملاء مؤخرا للقدس بأنها مشاركة للاحتلال فى جرائمه ضد الفلسطينيين وأن أى عربى يزور فلسطين هو مُطبِّع مع الكيان الصهيونى. وهو ما أكدته أيضا الصحفية والناشطة الفلسطينية صابرين دياب، التى اعتقلتها سلطات الاحتلال وأسرتها أكثر من مرة، فقالت بمناسبة زيارة الوفد المصرى «كل من يقبل على نفسه المجىء إلى فلسطين يعطى شرعية للاحتلال.. وإنه لا يحق لأحد الادعاء زورًا وكذبًا أن الشعب الفلسطينى يرحب بزيارة العرب ونحن تحت الاحتلال..
فشعبنا الفلسطينى الواعى والمناضل يرفض كل أشكال التطبيع ويرى فى زيارة المطبعين خرقا فاضحا للوعى الوطنى والقومى». إذن فنحن لن نتوافق، لأننا ببساطة لن نساق إلى حيث يراد أن تدفن القضية الفلسطينية فى إطار ترتيبات دولية وإقليمية تجرى الآن على قدم وساق تعيد صياغة الأوضاع والأدوار فى المنطقة، خصوصا بعد ما جرى فى الملف النووى الإيرانى وما يجرى فى سوريا ولبنان. لن نتوافق، لأن المطلوب من النخبة العربية أن تبارك وتمهد لفتح الستار للعبة جديدة فى سيناريو نقدم فيه آخر التنازلات عن حقوق الشعب الفلسطينى، ونتحول إلى نخبة تخون ضميرها الوطنى، وهو ما لن يكون. وأخيرا.. لقد طالبت مجلس النقابة بتحقيق شفاف فى وقائع ما جرى.. والتزمت الصمت بعدها احتراما لتقاليد أعتز بها، لكن وقائع كل ما جرى كانت خارج سياق كل التقاليد المرعية.. وأقولها بصدق لزملاء وإخوة وأصدقاء: لقد شعرت بأن بيانكم الأخير بخصوص هذه الأزمة جاء كأنه يبحث لحل عن أزمة وقع فيها مجلس النقابة وليس بعضا من أعضائه. وأنا لا أريد أن أزايد عليكم فى ما تتحملونه من أعباء.. لكن فى هذه القضية لن ينفع السكوت، ومطالبتنا بالتوافق تضليل.. لا أحبه لكم ولا أرضاه على نفسى.