اسمه «محسن»، ولو لديك بعض الوقت فإن قصة معرفتي به التي تطورت إلي صداقة طويلة وحميمة تعود إلي مرحلة الشباب الباكر في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وقتها تمتعت (أنا والأصدقاء كمال أبو عيطة وكمال خليل وعمر مرسي والدكتور عبد المحسن حمودة) بكرم ضيافة حكومة الرئيس حسني مبارك لمدة أشهر قليلة في أحد السجون التاريخية العتيقة، وعلي رغم تنوع انتماءاتنا السياسية كما تلاحظ ما بين ناصريين وشيوعيين وطليعة وفدية (الدكتور عبد المحسن) إلا أن تهمتنا المشتركة كانت «التخطيط» و«الشروع» في تنفيذ احتفال شعبي بذكري الزعيم الوفدي مصطفي النحاس باشا في ميدان التحرير !! ومن عجب أنني والكمالين وعمر معنا لم نكن نعرف وقتها أصلاً موعد ذكري الزعيم النحاس، وهل هي ذكري ميلاده أم رحيله ؟ وإن لم يكن لدينا مانع طبعاً من الاحتفال بأي من الذكرتين في أي ميدان بمصر، غير أن عدم الممانعة هذه التي كانت راقدة في ضمائرنا اعتبرتها مباحث أمن الدولة جريمة خطيرة فداهمت بيوتنا في الفجر وجرجرتنا إلي النيابة، التي بدورها صدقت فوراً ادعاءات المباحث الكاذبة بأنها تمكنت من ضبطنا متلبسين بالجرم المشهود أثناء توجه كل منا من بيته لميدان التحرير.. فين بالضبط ؟! مش مهم، المهم أن النيابة سكعتنا بناء علي هذا الكلام الفارغ أمراً بالحبس الاحتياطي المطلق علي ذمة قضية لم تنظرها المحاكم أبدا !! في السجن العتيق التقينا محسن الذي كان هو أيضاً مسجوناً سياسياً، غير أن تهمته كانت أكثر «شياكة» وأشد خطورة وتهون بجوارها تهمتنا العبيطة، إذ كان منسوباً له «الانضمام إلي تشكيل عسكري أجنبي معادٍ لمصر شخصياً»، لكن مختصر الحكاية الحقيقة أن هذا الشاب الصغير كان واحداً ممن شملتهم موجات التهجير الجماعي القسري المبكرة التي اقتلعت ملايين المصريين البسطاء وألقت بهم خارج حدود الوطن بعدما بدأت فرص الحياة الكريمة تنفد منه بسرعة، قبل أن يجف نبعها تماماً مع اكتمال سطو عصابات النشالين علي السلطة والثروة في البلاد. لقد عَبَر محسن حدود الوطن مع باقي العابرين آنذاك إلي ليبيا، وهناك وفقه الله بسرعة إلي عمل بسيط لكنه كان بأجر معقول ما ساعده علي استعادة إنسانيته ورقيه الفطري في الروح والوعي، وبينما هو علي هذه الحال حدث الغزو الصهيوني الإجرامي للبنان عام 1982، فلما سمع بأن السلطات الليبية فتحت باب التطوع لمقاومة جيوش العدو التي احتلت وقتها أول عاصمة عربية (بيروت) لم يتردد وذهب للتطوع فوراً في صفوف فرق المقاومة، وبعد أن تلقي تدريبات بدائية وسريعة سافر إلي لبنان، وكاد يستشهد وهو يقاتل دفاعاً عن جزء من أرض الوطن العزيز الكبير، لكنه عاد بعد أشهر إلي ليبيا معتزاً وفخوراً بأن جسده الغض يحمل آثاراً ستبقي طول العمر شاهدة علي مشاركته في معركة الشرف. غير أن محسن ما كاد يستقر في عمل بسيط جديد حتي داهمته عبثية تقلبات السياسات العربية الرسمية، إذ زادت فجأة آنذاك حدة تأزم العلاقة بين الحكومتين المصرية والليبية، وكانت النتيجة أن وجد نفسه ذات صباح محشوراً مع مئات العمال المصريين في حافلات ليبية أخذت تلقي بهم في الصحراء العارية علي حدود الوطن الذي لفظهم، لحظتها فوجئ بأن الدنيا تغيرت وازدادت سواداً، فلم يعد الأمر كما كان عندما غادر مجرد ضيق بالمواطنين وتحريض لهم علي الهرب، بل أضحي عداء صريحاً وسافراً للمصريين البسطاء ظهرت بشائره علي الحدود في طقوس الاستقبال الشنيعة والمهينة التي لم يكن أسوأها التوقيف والاحتجاز لأيام طويلة (قد تستمر أسابيع) في الصحراء القاحلة في انتظار المثول أمام ضباط مباحث يعاملون بني جلدتهم وكأنهم أسري جيوش غازية وهم يحققون معهم ويمطرونهم بما تيسر من الأسئلة الملونة بأقذع الشتائم !! وأخيراً حل الدور علي محسن الذي تجاوز عن بذاءات لا مبرر لها وأخذ يحكي لضباط المباحث بمنتهي البراءة والتلقائية قصة كفاحه المشِّرف في ليبيا ولبنان، فإذا بهذا الذي قاله يتحول لاعتراف بالتهمة الثقيلة العجيبة التي تعرفت في السجن عليه بسببها والتي برأته المحكمة منها فخرج من السجن بعد أسابيع قليلة من خروجي.. ثم بدأ ينسج قصة كفاح أطول وأشرس في وطن لم يعد كذلك، غير أن محسن ظل محتفظاً برغم البؤس والمحن الإنسانية بقدرة معجزة علي ارتقاء مدارج الرقي والسمو الروحي والخلقي والعقلي والسلوكي بثبات وثقة مثيرين للدهشة والحسد.. أنا شخصياً لا يفوق حسدي لمحسن إلا فخري بصداقته واعتزازي بأخوته.