ان نهدم مجلس الشورى فهذا امر مرحب به شعبيا. لكن الغير مفهوم هو مبررات الهدم. لذلك أشعر ان هناك من ساق الحجج للشعب على ان المجلس لابد ان يهدم من اجل ديمقراطية افضل وكأننا لم نعاني من مجلس واحد في عهد الأخوان سواء كان شعب او شورى منفردا. وكوني عضو احتياطي في لجنة الخمسين وشارك في نقاشات عديدة داخل اللجنة وخاصة لجنة نظام الحكم، اشعر ان من واجبي ومسئوليتي الوطني ان اعرض بعض الحقائق وأفند بعض الإدعاءات التى استند اليها في ألغاء مجلس الشورى. كنت ممن ينادون بألغاء الشورى لأنه بلا فائدة تذكر والمصريين يعزفون حتى عن المشاركة في انتخاباته. لذلك كنت أود لو أن الشورى تغير الى مجلس آخر حسن السمعة اسمه مجلس الشيوخ. ولما بدأت النقاشات داخل لجنة نظام الحكم، لم أكن قد بلورت رأى نهائي بكيف نفعل بأختصاصات الشورى. لكن مع الوقت وكثرة المناقشات اتضحت امامي الصورة وأنكشفت حقائق عدة.
من ينادي بألغاء مجلس الشورى يستند الى انه مثل "الدودة الزائدة" على المباني السياسية المصرية وانه بلا فائدة. لكن لماذا نأخذ مهام وأختصاصات مجلس الشورى ونحولها الى مفوضيات ومجالس عليا؟ لا افهم لماذا نلغي مجلس منتخب ونستبدله بمجالس عليا ومفوضيات ينص عليها في الدستور وتكون كلها بالتعين. بمعنى آخر، هناك من يأخذ على خاطره ان مجلس الشورى به ثلث يعين من قبل رئيس الجمهورية (مشروع مجلس الشيوخ كان يسمح بتعين 10% فقط) ثم يستبدل ذلك بمجالس ومفوضيات معينة 100 %. وهنا يستحضرني سؤال، هل سيكون التعين في هذه المجالس والمفوضيات بعيد عن رئيس الجمهورية؟
أدعاء آخر ان المجلس يصرف في السنة 850 مليون ج و في مقولة 450 مليون ج! لكن ايا كان الرقم الصحيح فهناك جزء مسكوت عنه! في مجلس الشورى 900 عامل، سيتم نقلهم الى مجلس الشعب (حوالي 4000 عامل) وبالتالي لن تتبخر مرتباتهم، بل ستبقى كما هيه. صحيح ان هناك جزء من ميزانية مجلس الشورى يذهب لأعضاء المجلس، لكن هذه النسبة هي الأقل. اما النسبة الأكبر فهي التى تصرف كدعم للأهرام والأخبار والجمهورية والصحافة القومية، والأحزاب الخ. فهل سنلغي هذه الأموال؟ ام انها ستنتقل الى مجلس الشعب؟
الشاهد اننا نلغي مجلس ونزيد العبئ على آخر. في حين ان المشروع المقدم لمجلس الشيوخ الجديد كان يستهدف الى منحه صفة تشريعية في مجالات معينة وهي التعليم، والتعليم العالي، والبحث العلمي، والصحة، والنقابات، والمحليات (بما فيها سلطة عزل المحافظين)، وكذلك نوع جديد تماما من الرقابة غير موجود بمصر اساسا اسمه الرقابة المسبقة! كل اجهزة مصر الرقابية تعد رقابة لاحقة. ولذلك تستطيع الحكومة ان تبنى جراج رمسيس وتهدمه خلال العام بدون ان تكترث لأي مسألة الا في نهاية العام. الرقابة المسبقة تعني ان المشروعات ذات الصرف الكبير (مليار ج او أكثر) لا تبدأ الا بعد موافقة مجلس الشيوخ.
لذلك الجزء المعين في مجلس الشيوخ (10 % بحد أقصى منهم رؤسائ سابقون، ان لم يكونو في السجن، و شخصيات وطنية وأقتصادية كبيرة) هم جزء مهم جدا لابد من الأستعانة به ليس فقط لضمان جودة التشريع ولكن ايضا لضمان أخراج قوانين ذات كفأة عالية. ولنتوقف قليلا امام كلمة جودة التشريع. هناك أكثر من 380 حكم من المحكمة الدستورية العليا ببطلان تشريعات صدرت من مجلس الشعب خلال عهد مبارك. القاسم المشترك بينها انها لم تمر على مجلس الشورى. اما القوانين ذات الكفأة، فالمقصود بها ان لا تأتي حكومة وتسن الغاء الصف السادس الأبتدائي ثم تاتي حكومة وتعيده. ثم نجد مرتبت مصر وصلت الى 148 على 148 في تنافسية وجودة التعليم طبقا للبنك الدولي.
أعتذر عن طول المقال، لكن لابد من كشف حقائق أخرى كثيرة، اختصرها في نقاط قليلة، ومنها على سبيل المثال ان طريقة الغاء مجلس الشورى جرى بها العديد من التحايل لدرجة جعلت رئيس حزب الوفد الدكتور السيد البدوي يقول في جلسة لجنة الخمسين المغلقة بالأمس انتم تفعلون مثل الحزب الوطني عندما كان يريد ان يمرر شيء. فماذا حدث؟ لائحة المجلس تقول ان الموافقة على المواد يتم بموافقة 75% من الأعضاء فأذا تعذرت هذه النسبة وجب أرجاء الموضوع لمدة 24 ساعة ثم يتم التصويت مجددا. وفي حال عدم التوافق للمرة الثانية يتعين على هيئة المكتب ان تجتمع وتغير النسبة.
لكن بالأمس لجنة الخمسين المغلقة والمستبعدة للأحتياطي طبقا لقرار اللائحة، غيرت اللائحة في ذات الجلسة وجعلت التصويت بنظام 50% + 1. هكذا. الأمر المشين في هذا الموقف ان المشروع المقدم للجنة الخمسين لم يكن يحتوى على مواد مجلس الشيوخ او حتى باب الأحكام المشتركة بين مجلس الشعب والشيوخ كما انتهت اليه لجنة نظام الحكم. لماذا هذا امر مشين؟ لأن لجنة نظام الحكم لم تقر الغاء مجلس الشيوخ. فكيف تتدعى منصة لجنة نظام الحكم ان التوافق تم مع لجنة الصياغة على الغاء مجلس الشيوخ؟ كيف نتحايل لألغاء مادة في الدستور؟ اليست هذه نفس ممارسات أغلبية الأخوان عندما كانوا يريدون تمرير مواد او العصف بأخرى؟
مشكلة تغير اللائحة ان الأمر قضي بليل وبدون اتباع الأجراءات الصحيحة، ويتبع ذلك خطورة المواقف التى ستترتب على ذلك. مثلاً، بالأمس القريب أنسحب نيافة الأنبا بولا من جلسة لجنة الخمسين المغلقة لشعوره بأصرار لجنة الخمسين على تمرير بعض المواد التى يتبناها حزب النور مثل المادة 219 او على الأقل نصها. والآن بعد ان اصبح على الأنبا بولا اقناع 51% من اللجنة بدلا من 26%، فهل سينجح، خاصة ان الأزهر والمفتي مؤيدون لأتجاه حزب النور؟
وماذا عن الساسة وقوانين الأنتخابات، هل ياترى ستنجح الأقلية التى تمثل الأحزاب بالداخل على أقناع لجنة الخمسين بفائدة نظام القائمة وبالتالي تبني نسبة الثلث بنظام القائمة والثلثان بنظام الفردي؟ وماذا عن القضاء العسكري؟ هل اصبحت مهمة الجيش أسهل في أقناع 51% بدلا من 75% ببقاء القضاء العسكري؟ وبالنسبة لتعين وزير الدفاع عبر المجلس الأعلى للقوات المسلحة؟ وأسئلة أخرى كثيرة!
بأختصار، ما نصنعه في الدستور الان اننا نستبدل مجلس الشيوخ المنتخب بمفوضيات ومجالس عليا كلها بالتعين. في حين ان التعين في مجلس الشيوخ في جزء منه بالصفة. فما الذي يمنع رئيس الجمهورية الآن من السيطرة على المجالس العليا؟ والمفوضيات؟ وما الذي يمنع المفوضيات من تلقى امولا من الخارج؟ الا يتلقى المجلس القومي لحقوق الأنسان امولا من الخارج بالفعل؟ لكن هل يتلقى مجلس الشيوخ او الشعب اي تمويل أجنبي؟ ولهذا أقول ان تسويق الغاء مجلس الشورى الذي عصف بذهن الناس الآن لن يستمر طويلا.
دائما كنت أقول ان بقاء اي دستور او مادة دستورية هو رهن لأمران. الأول موازين القوى التى تحكمت في كتابة الوثيقة او الدستور او المادة. ويبدو ان تأثير التيار الديني قوي ولذلك تريد الأرادة السياسية ان تكسب صوته لتحصل عن ما يزيد عن 75% تأيد شعبي لكي لا يوصم الدستور بانه دستور تفرقة كما كان دستور الأخوان صاحب ال64%. اما العنصر الثاني لبقاء المواد هو مدى كفأة المواد. وهنا التجربة الواقعية هي التى تحدد مدى صمود المواد عند الأختبار.
ما أثق فيه ان الناس ستدرك مع الوقت ان مفوضية ضد التمييز هي في الواقع أكبر دليل على وجود "التميز" واكبر مكرث له. وان مفوضية ضد الفساد تعمل على تنسيق الأدوار بين الأجهزة الرقابية هي أكبر خطر يهدد الأجهزة الرقابية، وان أنشاء مجلس اعلى للصحافة خارج عن نطاق مجلس الشيوخ المنتخب هو عملية استحواذ لدوائر بعينها على الصحافة القومية، وان مفوضية العدالة الأنتقالية "المؤقته" هي بالضبط ما تحتاجه الأجهزة التنفيذية للأمساك بالعدالة الأنتقالية. وأخيرا كل هذه المجالس والمفوضيات الجديدة هي مجرد أداة جديدة مختارة وهي أكثر طوعا لرئيس الجمهورية.
ما بين الغاء مجلس الشورى الآن وعودته مجددا بعد ان يصبح مطلب من جديد هو مسألة وقت فقط. خلال هذا الوقت سيتم تحويل أثقال من القوانين الى مجلس الشعب الذي يطلب من مؤهلات عضويته ان يكون المشرع القانون يعرف القراءة والكتابة بدلا من حصوله على التعليم العالي كما كان يشترط لمجلس الشيوخ! ولو كان الحل في زيادة اعضاء مجلس الشعب، فهنا أسأل، وهل سيعملون بدون اجر؟ ام انهم سيحصلون على ذات الأجر الذي كان يحصل عليه أعضاء مجلس الشيوخ؟
وفي المقال القادم نعرض معضلة أخرى تتجاهلها لجنة نظام الحكم ولجنة الخمسين أسمها "حساب الأحتمالات". دمتم بخير!