هذا الكتاب تقريبا أول دراسة باللغة العربية تتعرض بعمق لهذا الموضوع شديد الأهمية والتأثير والخطورة.. الفضائيات، وأهمية الكتاب لا تقف عند ذلك فحسب، وإنما أيضا في أن مؤلف هو السيد الغضبان الإذاعي المخضرم- التحق بالإذاعة المصرية منذ 1954-، والمهتم برصد التأثير الإيجابي والسلبي لوسائل الإعلام المختفلة وتحديدا التليفزيون منذ سنوات طويلة. يمر المؤلف سريعا علي جذور الحروب الإعلامية «العربية- العربية» ابتداء من سنوات الخمسينيات وكيف أن التحول الكبير الذي أحدثته ثورة يوليو في المنطقة، ولد علي أثره ظهور «الإذاعات الموجهة»، ووسائل الإعلام التي تتحدث باسم من يدفع، قبل أن تدخل الفضائيات في المشهد بقوة في السنوات الأخيرة، للتتسيد المشهد وتحل محل الإذاعات الموجهة أو الصحف التي تصدر في الخارج بتمويل أمراء وملوك ورؤساء وزعماء ودول.. وربما عصابات مافيا أيضا! وإذا كان الكتاب يصل في نهاية صفحاته إلي نتيجة مفادها أن الحديث عن الإعلام المستقل في العالم العربي هو محض أكذوبة، فإنه يمهد لذلك في الصفحات الأولي يقول المؤلف:"الواقع العربي يؤكد عمليا أن مالكي المؤسسات الإعلامية هم أصحاب الكلمة الأولي والأخيرة ليس فقط في تحديد سياسات وتوجهات هذه المؤسسات، بل إنهم يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة في الممارسات المهنية»، ثم يتحدث عن أصحاب ومالكي الفضائيات الخاصة قائلا: «لا يتعاملون مع هذه الفضائيات باعتبارها استثمارا في مجال اقتصادي تحكمه دراسات جدوي لمعرفة مدي الربح أو الخسارة لكنهم يرون أن ملكيتهم لهذه الفضائيات تمنحهم فرصة للمناورة مع أنظمة الحكم لتحقيق أكبر قدر ممكن من الحماية لاستثماراتهم، وهذه النوعية من القنوات توجد بشكل واضح في مصر» ولعل هذا الرأي هو ما دفع الغضبان لأن يصف القنوات الخاصة في مصر بأنها «قنوات رجال الأعمال» وهي ربما تكون التسمية الأدق لكنها الأكثر صراحة بما قد يثير حفيظة أصحابها. لكن الكتاب الجريء لا يكتفي بذلك فحسب، بل يدخل في العمق متحدثا عما تقدمه قنوات رجال الأعمال، فعن المحور يكتب:"يلفت الانتباه إلي أن مالكي القناة اختاروا لتقديم برامجهم السياسية عددا من الصحفيين الموالين للحكومة.. وعندما تقدم بعض النقد ببرامجها الجماهيرية، فإنها تفعل ذلك وهي متدثرة بعباءة النظام»، ثم يهاجم القنوات الرياضية المتخصصة معتبرا أنها بدلا من أن تقدم رسالة إعلامية تساعد علي تنمية الروح الرياضية، غذت التعصب والإثارة قبل أن تتحول إلي أداة في يد وكالات الإعلانات، معتبرا أن القنوات الدينية سواء الإسلامية أو المسيحية وقعت في يد «تجار الإعلام» الذين لا يعنيهم أي شيء سوي الربح المادي وقد استعانوا في ذلك - بحسب الكتاب- بالدعاة الذين يجيدون الأداء التمثيلي وقد ركزوا علي الأمور الهامشية فحسب، وأن ذلك يتم بمعرفة ورضا الأنظمة الحاكمة رغم أنه نفسها التي ترفض إدخال الدين في العمل السياسي بشكل مطلق، ملخصا أهداف القنوات الدينية في «تكريس ثقافة الاستسلام للواقع والرضوخ للقهر والظلم بمنطق الرضاء بقضاء الله وقدره وقبول كل ما يصدر عن الحاكم من قرارات أو تصرفات مهما كانت ظالمة»، إضافة إلي الترويج إلي المذهب الشيعي والسني بحسب الجهة الممولة «إيران أو السعودية»!، علي أن الكتاب يوجه تحية إلي قناة دريم وتجربتها في صناعة إعلام جريء عبر بث محاضرة هيكل عن التوريث وإجراء حوار معه في استديوهات خاصة قبل أن يتم منع ذلك الحوار من البث، إضافة إلي الدفع بعدد من البرامج ذات الحس النقدي مثل علي القهوة والحقيقة والعاشرة مساء، مسجلا في ذات الوقت استسلام القناة في كثير من الأوقات للضغوط الحكومية معتبرا أن العلاقة بين دريم والنظام علاقة «كر وفر». يفرد الكتاب صفحات للحديث عن تجربة قناة الجزيرة، خاصة وأن المؤلف كان شاهد عيان علي الفكرة وهي لاتزال في رأس حمد بن جاسم آل ثاني وزير خارجية قطر الذي التقاه في الدوحة وطلب من كتابه تصورًا لقناة إخبارية عربية جريئة لا تلتزم الخطوط الحمراء المعتادة في المنطقة، ويشير الغضبان إلي أن فكرة الجزيرة تولدت من عدة عوامل منها استقرار القواعد العسكرية في قطر، وما شكله هذا من حماية للنظام هناك، إضافة إلي حادثة تعرف باسم «مخفر الخفوس» وهو المخفر الموجود علي الحدود بين قطر والسعودية وقامت الأخيرة باقتحامه رغم تبعيته لقطر، ثم استطاعت الفضائيات المملوكة للسعودية الترويج لحق السعودية فيما فعلت، إضافة إلي رغبة حمد بن جاسم في أن يجعل من بلاده الصغيرة قوة إقليمية مهمة في المنطقة ووجد ضالته في الإعلام.، علي أن ذلك لا يمنع المؤلف من رصد سلبيات في القناة في برامج بعينها منها الاتجاه المعاكس وأكثر من رأي وبلاحدود، معتبرا أن القنوات العربية الإخبارية التي لحقت بالجزيرة مثل العربية وقناة مصر الإخبارية، لا تستهدف أكثر من تبرير سياسات أنظمة الحكم التابعة لها، وإقناع الجماهير العربية بأن سياسات هذه الأنظمة تستهدف مصلحة الأمة العربية والأهم التلويح لباقي الدول العربية التي قد تختلف مع الدول المالكة لهذه القنوات بأن لها «قوة ردع إعلامية». وإذا رصد الكتاب بعضًا من الإيجابيات التي صنعتها الفضائيات العربية في مجتمع يمتد من المحيط إلي الخليج، متمثلة في ظهور صوت المعارضة، والكشف عن بعض عمليات الفساد الكبري وإجبار الأنظمة علي عدم التستر عليها، وكسر حاجز الخوف لدي الجماهير واكتسابهم قدرة التعبير عن الرأي عبر الاتصال التليفوني، فإن السلبيات كثر أيضا وهل هناك أسوأ من استدعاء مشاعر التعصب الوطني وتشتيت المشاهد والدفاع عن الأنظمة الحاكمة المستبدة والترويج للصراع المذهبي وتحويل الدين إلي سلعة ونشر ثقافة الاستهلاك إنه السوء بعينه ولعل هذا هو أحد أهم أهداف الكتاب أن يصرخ في أذن المشاهد العربي «خلي بالك مما تراه عيناك».