اليوم أكون قد أتممت سبع سنوات من الحياة بعد الإقلاع عن التدخين. ما زلت أذكر آخر يوم كنت فيه من المدخنين.. كنت أجلس مع الأصدقاء بالمقهي في مونتريال نضحك ونتسامر، وبعد أن عدت إلي البيت وآويت إلي الفراش وجدت نفسي عاجزاً عن التنفس..كنت أفتح فمي علي اتساعه محاولاً التقاط الهواء دون جدوي. أحسست بالغرفة تميد بي وشعرت أنني علي وشك الدخول في غيبوبة لعدم وصول الأوكسجين إلي المخ. شعرت بالرعب من أن تتلف خلايا مخي أثناء الغيبوبة القادمة وخشيت أن أفيق بعد يوم أو اثنين لأجد نفسي أرقد في المستشفي الذي نقلني إليها أولاد الحلال وقد أصبت بشلل نصفي أو فقدت بعض حواسي. استنجدت بصديق فأسرع بالتقاطي وحملي إلي مستشفي «رويال فيكتوريا» وهناك وضعوا لي أجهزة تنفس وأوكسجين فعدت إلي الحياة من جديد بعد أن كان الموت يناوشني ويكاد يحدق بي!. تم عمل كشف شامل علي أجهزة الجسم ووظائف الأعضاء، وأقبل عليّ الطبيب يحمل خبراً ساراً: ليس عندك سرطان!.شعرت بالانزعاج من هذا الخبر الذي يفترض أنه طيب. سألته: وهل كنتم تشكون في إصابتي بالسرطان؟.أجاب: لا..لكني فقط أخبرك بالنتيجة! وسألني: منذ متي تدخن؟. فقلت: منذ كنت في الإعدادية!.أوضح لي الطبيب أنني قد ضحكت علي الدنيا واستمتعت بالتدخين لسنوات طويلة دون أن أدفع ثمناً فادحاً، ولكن تحذيره كان واضحاً: أنت الآن تقف علي الحافة، ومن الآن فصاعداً سيكون للتدخين ثمن لا يمكنك احتماله. ومضي الطبيب يشرح:عندما يكون المرء شاباً فإن خلاياه وأنسجته وتكوينه الجسماني يتحمل أضرار العادات السيئة كالتدخين وشرب الخمر والطعام الدسم، ولكن بمرور الوقت تتراكم الأضرار وتتأثر الأعضاء في الوقت الذي تكون عمليات البناء والنمو قد توقفت وعمليات الهدم قد بدأت، ويكون المنحني الطبيعي لدورة الحياة قد أخذ أقصي ارتفاعه ثم بدأ يتجه لأسفل. وجدتني متفهماً تماماً لكلامه وتذكرت قول الشاعر: لكل شيء إذا ما تم نقصان!. حقاً لقد كنت في السن الصغيرة ألعب مباراة كرة مع أصدقائي والسيجارة في فمي، وهي حالة تعبر عن منتهي الغرور والجهل والغباء، وكنت لخيبتي أضحك ممن يحذروني من خطر التدخين وأتساءل في وقاحة: أين هو هذا الخطر؟.. إنني ألعب المباراة كاملة ولا أشعر بأي تعب. لم أكن أعلم أن التأثير يكون تراكمياً والضرر يكون مثل البناء الذي يعلو ويعلو في غفلة من صاحبه، وعندما يكتمل يكون الوقت قد فات لعمل أي شيء. تذكرت وقتها حجم الخراب الذي ألحقته بنفسي نتيجة إصراري علي التدخين في كل وقت وتحت كل الظروف. حتي في كندا التي تحظر التدخين في كل مكان تقريباً وتضيق علي المدخنين بشكل كبير ولا تترك لهم مكاناً يمارسون فيه عادتهم القذرة سوي الشارع..حتي هناك كنت أترك مكتبي وأنزل الشارع أقف مع أهل الكيف أدخن وسط درجة برودة قارسة. بعد كلام الطبيب تملكني الخوف فأخذت قراراً بالإقلاع الفوري عن التدخين..فهل كان القرار سهلاً؟ بالمرة.. لقد كانت تجربة أقسي من جهنم، وشعرت وقتها نتيجة افتقادي للنيكوتين أنني تعيس جداً وعشت أياماً مريرة فكرهت نفسي وكرهت الحياة وصرت كئيباً مكتئباً شديد العدمية فاقداً للإحساس ببهجة الحياة وجدواها!. لكن بمرور الأيام بدأت الأعراض الانسحابية تزول وصار كل يوم أفضل من سابقه حتي تخلصت من كل تأثير للسيجارة بعد ثلاثة أشهر، وأحسست أنني ولدت من جديد. واليوم ورغم عدم كراهيتي لرائحة التبغ التي قضيت عمري معها فإنني لا أفكر مطلقاً في العودة للتدخين ليس لأضراره السيئة، ولكن لأنني لا أقدر علي المرور بتجربة الإقلاع عن التدخين مرة أخري!.