شاعت عبر السنين الماضية في مصر والسعودية وغيرهما ظاهرة عجيبة، لم نكن نراها في مجتمعاتنا من قبل؛ هي ظاهرة (شيوخ الدعاء)، وهم من يدعون بصوت متهدج وتأمين باك من المصلين، ومما زاد من غرابة هذه الظاهرة أن منتجي الشرائط والاسطوانات أقبلوا على هؤلاء الشيوخ فأنتجوا لهم إسطوانات مدمجة وشرائط و فيديوهات أعلنوا عنها في مختلف وسائل الإعلام مرئية و مسموعة ومطبوعة، حتى توقعت منهم أن يكتبوا في الإعلان: البكاء مضمون. اتخاذ الدعاء إلى الله هذه الأشكال الغريبة باعدت مفهوم الدعاء الحقيقي في أذهان الناس عن العبادة، وجعل الدعاء مجرد كلمات تُقال في مناسبات دينية في رمضان و غيره أو في أعقاب الصلوات، حيث يجني المنتجون الأرباح الطائلة من وراء تجارة الدُعاء، فمن لم يستطع أن يحضر تلك الصلاة أو تلك المناسبة كليلة القدر أو غيرها، يستطيع أن يشتري الشريط أو السي دي، فإن اشتراه فبكاؤه مضمون ..ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول الله تبارك و تعالى في كتابه الكريم:( وقال ربكم ادعوني استجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) صدق الله العظيم .. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:( الدعاء هو العبادة )، و قال أيضا: (إن عبادتي دعائي). يقول بعض المفسرين أن الدعاء هو ترك الذنوب والمعاصي.
وواضح من الآية الكريمة أن الله تعالى وعد بالاستجابة للدعاء بمجرد حدوثه، وذلك دون قيد أو شرط وهذا يؤكد أن الدعاء ليس أن يقول الإنسان بعض الجمل أو الكلمات؛ التي يسبقها يارب أو ياإلهي أو يالله؛ فيستجيب الله فورا لطلبه، وإنما الدعاء في حقيقته هو عبادة الله وحده، فإذا صدقت عبادة الإنسان لله الذي وعده فإن الاستجابة حتمية الحدوث، وما يؤكد هذ التعريف للدعاء قراءة الآية حتى آخرها، ففيه يأتي الوعيد الرهيب لمن يستكبرون عن عبادة الله؛ أي يستكبرون عن الدعاء له؛ بأنهم سيدخلون جهنم صاغرين مُحقّرين جزاء مااستكبروا في الدنيا عن عبادة الله، قال لهم الله تعالى: ادعوني؛ أي اعبدوني، فاستكبروا ولم يعبدوه فاستحقوا العذاب والعقاب.
ومن الغريب أن محترفي إلقاء الأدعية بالكلمات، قد توجهوا في إلقائهم كلمات مايسمونه أدعية بالتنغيم والتلحين والسجع؛ مما يجعلها تشبه قراءة القرآن، وذكرني أحدهم وهو يُلحن أدعيته الرمضانية بما قال القرآن في بعض أهل الكتاب: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران 78..
ولعلنا كثيرا مانتساءل؛ لماذا لا يستجيب الله دعاءنا؟ لماذا لم يُهلك الله اليهود والكافرين؟ لماذا لم يفّرق شملهم؟ ولم يُهلك جمعهم؟ لماذا لم يُهلك الظالمين بالظالمين؟ بل إنما حدث هو العكس؛ أننا نحن من تفرقنا وهلكنا وتفرق شملنا وتشتت وحدتنا؛ والآن يُهلك الله بعضنا ببعضنا، ومامن بلد يعيش فيه مسلمون إلا وكانوا هم من يُهلكون ويتفرقون ويُهلك بعضهم بعضا، برغم أننا (ندعو الله) منذ خمسة وستين عاما، أن تزول إسرائيل؛ ولم تزُل بل إنها تهود القدس الآن على حساب من يدعون عليها ليل نهار !
الإجابة على السؤال فيما ذكرتُ، أن جموع المصلين تؤمّن على الدعاء في صوت واحد؛ بكى من بكى وصرخ من صرخ، وانفض الجمع الغفير وذهب كل إلى حاله، ونُسِي الدعاء والدموع والتأمين، فلا هم عبدوا الله حق عبادته، ولا هم استُجيبت دعواتهم.
لقد شُوِّه مفهوم العبادة، وأصبح الدعاء لله مجرد كلمات تُقال، ودموع تتساقط وأصوات تتهدّج؛ بعدها لا عمل، نسينا أن الله تعالى لا يستجيب لدعاء؛ أي لعبادة العباد إلا إذا أخلصوا العبادة له، وعملوا بجّد وصدق وتفان في سبيل تحقيق مايسألون الله تحقيقه، حينها يصدق مفهوم الدعاء ويستجيب الله لهم.
يجب أن نتذكر دائما أن الله سميع عليم، لا يحتاج منا أن ندعوه برفع الصوت ولا البكاء، بل إن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ رجل ذكر الله (خاليا) ففاضت عيناه، هذا الرجل لم تدمع عيناه وهو يؤمّن خلف دعاء إمام بين الآف المصلين، وإنما ذكر الحديثُ أنه كان خاليا أي منفردا يقف بين يدي الله وحده، يخافه دون أن يراه الناس،
بعد ما ذكرت؛ لا يستجيب الله لدعائنا لأننا لم نخلص في طاعته، ولم نعبده حق عبادته، فالعرب والمسلمون طالما رفعوا أصواتهم بالدعاء ولم يستجب الله لدعائهم، فالدعاء لله لا يكون بالكلمات المجردة الملحّنة، الدعاء هو كل طقوس وشعائر العبادة، وكل أعمال وأقوال الإنسان، التي تدل على أنه يعبد الله، فإن قبل الله تعالى منه عبادته قبل دعائه واستجاب له، أما من ظن أن الدعاء يصل إلى الله برفع الصوت والصراخ والبكاء، فهو واهم، لأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يكفيه سبحانه وتعالى منا حُسن العبادة وحُسن العمل وحُسن النوايا، لتحدث الاستجابة ويحسُن الأجر بإذن الله. والله من وراء القصد.