بدأ هابيل في بناء داره بهمة ونشاط بمساعدة أبنائه، حتى استقر البناء بعد سنوات عدة سليما خاليا من العيوب، وغرس في أبنائه كل المبادئ والقيم النبيلة، حتى أحبهم الجميع ورغب في صحبتهم كل من عرفهم، حرص هابيل على جمع أبنائه يوم الجمعة يعطيهم من النصائح ما يحبب فيهم الناس أكثر، ويكونوا قدوة يَحتذي بها من يأتوا بعدهم، شاع صيت أبناء هابيل الحسن في البلاد، ودخل الناس في دينهم أفواجا لما لمسوه من حُسن أخلاقهم وأمانتهم وصدقهم، حتى توسعت أملاكهم وبلغت مشارق الأرض ومغاربها، وأقبل الناس على تعلم لغتهم لينهلوا من نهر علمهم الغزير في شتى المجالات، وانتشر العدل واختفى الفقر في أرض أبناء هابيل حتى غدت الأمثال تُضرب بطريقتهم المُثلى في حسن الإدارة والتنظيم والعطاء، وأصبحوا كالنجوم يُشار إليهم بالبنان.
كان قابيل ابن عم هابيل، يرقُب بحقد وغلّ نجاح أبناء هابيل وحب الناس لهم، فأضمر في نفسه شرا، وتفتق ذهنه عن خطة شريرة لا يفطن إلى مثلها الشيطان، و بدأ في دس المكائد و الفتن والعداوة بين أبناء هابيل، و مضى في خطته الشريرة يعمل بمكر ودهاء، منتظرا اللحظة المناسبة. تجول قابيل في سوق النخاسة يتفرج على الجواري، انتقى أجملهن وجها وأحسنهن صوتا، دفع فيها ألف قطعة ذهبية، مضى بها إلى قصر ملك البلاد هابيل، طلب الإذن بالدخول، أدخله الحاجب إلى مجلس الملك وهو يلتفت خفية إلى الجارية الحسناء، انحنى قابيل بين يدي الملك قائلا: السلام عليك ياملك البلاد، جئتك بهدية أرجو أن تقبلها مني وألا تردّني خائبا، خطف جمال الجارية عقل هابيل
وقال: تعال اجلس أيها الرجل، اخبرني ماذا تريد من وراء هذه الهدية؟ طأطأ قابيل رأسه قائلا: لا أريد سوى سعادتك أيها الملك، لقد أعجبني حُسن هذه الجارية فأقسمت ألا تكون لغيرك، هز الملك رأسه ناظرا إلى الجارية باستحسان وقال: إنها تخطف الأبصار فعلا، لقد قبلت هديتك أيها الرجل، مااسمك؟ قال مبديا سعادته: شكرا لقبولك هديتي أيها الملك العظيم، اسمي قابيل يا سيدي وأنا ابن عمك، ولم ترني جلالتك من قبل لانشغالك بأمور المملكة، وأردف: لقد سمعت الكثير عن علمك وعدلك وحب الناس لك، وأرى أنهم محقون في ذلك، فمثلك يجب أن يحظى بحب الناس وتقديرهم.
سُرّ الملك بثناء قابيل، فهو لم يعتد قبل ذلك مدح الناس له، ابتسم قائلا: إنك لك لسانا له حلاوة لم أعهد مثلها من قبل، ثم أمر خازن بيت المال أن يحضر صُّرة من الذهب، لبى الخازن أمر مليكه مسرعا ووضع الصرة بين يديه، قال هابيل: خذ يا قابيل هذه لك، لكن قابيل وقف قائلا: والله ماأنا بآخذ أبدا ثمن هديتي، أعذُرني أيها الملك العظيم، ابتسم الملك قائلا: مارأيت أحدا قبل الآن يرفض عطية الملك، لقد قبلت عُذرك أيها الرجل انصرف الآن، وعد غدا لتكون جليسي. انحنى قابيل مقبلا يد الملك قائلا: السمع والطاعة أيها الملك العظيم.
تعددت زيارات قابيل لملك البلاد، وفي كل مرة يحضر له فيها جارية حسناء دون أن يقبض الثمن، وحظي بحب الملك له فقربه إليه واتخذه صديقا. ثم عيّنه كبير المستشارين في القصر، بعد أن نجح في إقناعه أنه يريد له ولأخوته خيرا، وأصبحت له حظوة كُبرى عنده يدخل عليه متى أراد ليلا أو نهارا. اتفق قابيل سرا مع بعض الجواري أن ينقلن له أسرار ملك البلاد، فأطعنه لما أغدق عليهن من الأموال والعطايا دون علم الملك، وذات ليلة اتفق مع إحداهن أن تقتل زوجة هابيل، وأجزل لها العطاء والوعود أن يجعل الملك يتزوجها سرا، فأطاعته الجارية وفعلت ما أمرها به، دخلت إلى مخدع الملكة وخنقتها بوسادة حتى همدت وسكنت حركتها. في الصباح أعلن الملك حزينا خبر وفاة زوجته دون أن يشُك أحد في سبب موتها، أضربت الجارية القاتلة عن الطعام حزنا على وفاة الملكة، وبلغ أمرها إلى الملك فسألها عن سبب امتناعها عن الأكل، أجابته بصوت حزين: لقد كانت رحمها الله أقرب الناس إلى قلبي بعدك أيها الملك العظيم، نظر الملك إلى وجه الجارية الحسناء قائلا: لكن جمالك سيذوي إن لم تأكلي، ردت بصوت حزين: لا يهمني إن مت بعد وفاة مليكتي، قال الملك: مارأيت مثل حبك لزوجتي، نعم الجارية أنت، ما اسمك؟ قالت تظهر الحياء: إسمي فتنة ياسيدي، قال لها الملك: أنت فعلا فتنة للعقل والقلب،ومنذ الآن اعتبري نفسك محظيتي الأولى لكن عليك أن تأكلي و تشربي هل فهمت؟ هزت رأسها وقد تضرج وجهها الجميل بحُمرة الخجل قائلة بصوت هادئ: السمع والطاعة يا مولاي، تزوج الملك سرا جاريته الحسناء فتنة بعد أن تملكت عليه حواسه وكل عقله وتفكيره.
أصبح قابيل بمرور الأيام الصديق والمستشار الوحيد للملك هابيل، يستشيره في كل الأمور ويأخذ بنصيحته حتى في أدق الأمور العسكرية، وذات ليلة استيقظ هابيل على يد صديقه قابيل، يحذره من أن أحد أخوته يضمر له شرا، وأنه استمع بالأمس صدفة إلى حديثه مع أحد أعوانه يأمره فيه بقتل ملك البلاد ليحلّ مكانه، هب من نومه مذعورا يسأله: هل أنت متأكد يا قابيل؟ هز قابيل رأسه وعلتّ وجهه أمارات الهلع و الخوف على صديقه وقال له: كل التأكد يا صديقي، إنهم يحسدونك على منصبك العالي دونهم، فماذا أنت فاعل؟
رد بغضب مزمجرا: والله لأقتلنه وبنيه جميعا ولن أكون نادما، فهم من بدأوا العداء. قال قابيل بهدوء ناصحا: اهدأ يا مولاي، فما هكذا تُحل الأمور، قاطعه مُحتدا: هل أنتظر أن يقتلوني؟ أجابه: لا ولكن قتلك له ولبنيه يحرض الجميع ضدك، احرص على إخفاء غضبك وسأتولى أنا مهمة الخلاص منهم دون أن يكون لك يد في ذلك، مارأيك؟ هدأ غضب هابيل وقال: إفعل مابدا لك، فقد فوضتك لهذه المهمة.
استيقظ أبناء هابيل على صراخ رهيب، كانت النسوة تولّولن من منظر جثة مضرجة بالدم لا تظهر ملامح صاحبها، ساد الهرج و المرج أرجاء القصر، وأعلُنت حالة الحداد على مقتل شقيق ملك البلاد.
دعا هابيل كبير الأمن في القصر وأمره بصوت حزين؛ أن يجّد في البحث عن قاتل أخيه، انحنى الرجل قائلا: السمع والطاعة لك يا ملك البلاد، سآتي لك به وإن كان تحت الأرض.
اجتمع هابيل وقابيل ليلا تحت أجنحة الظلام، يخططان معا لإخفاء كل ما يمتّ بصلة لجريمة القتل، همس قابيل في أذن هابيل: لقد سمعت أمس إحدى نساء أخيك تقول لصاحبة لها أنها تشك فيك يا سيدي، فمرني بقتلها قبل أن يستفحل أمرها وينتشر الخبر، هز هابيل رأسه موافقا: إفعل مابدا لك، فأنت صديقي الصدوق. مرت السنون وتمكن قابيل وبنوه بمكر وصبر ودهاء من تقويض مُلك هابيل وبنيه، فتفتتت مملكتهم، وتمزقت وحدتهم وانهار بنيانهم، وغلبتهم أعداؤهم من كل صوب وحدب، حتى صاروا مضرب الأمثال في الجهل والتخلف والتأخر والتناحر.