تسبب التأخير في فض اعتصامات الخارجين على القانون، من أتباع الرئيس الإخواني المخلوع في ميداني رابعة العدوية والنهضة، في إحداث بلبلة شديدة. ومن الواضح إلى الآن أن الإخوان بالتعاون مع السلفيين والجماعة الإسلامية ربحوا الحملة الإعلامية التي تقوم بها كبريات وكالات الأنباء العالمية إضافة إلى الفضائيات التي تتحالف حكوماتها وممولوها مع الإخوان المسلمين. الموقف الآن، ليس أزمة أو صراعا بين طرفين، وإنما هو إخضاع بعض الخارجين على القانون للقانون! ومع استمرار الوقت، بصرف النظر عن فض الاعتصامات من عدمه، ستظل حملاتهم الإعلامية هي الأنجح.
وفي ظل الشد والجذب، والأنباء المتوالية عن النشاطات الإرهابية في سيناء، والمواقف الدولية المتقلبة والضاغطة والمساومة، والخلافات في داخل النظام الحاكم الجديد بشأن فض الاعتصامات، فوجئ المصريون بإعلان حركة المحافظين التي تضمنت عددا كبيرا من ضباط الجيش والشرطة، ما دفع قطاعا كبيرا من الشعب المصري للاعتقاد بأن هناك عمليات تسويف مقصودة من جانب النظام في إقرار الأمن وفض اعتصامات الإخوان المسلمين، لكي يتسنى له رسم خريطته السياسية الخاصة واضعا المصريين أمام الأمر الواقع والقبول به طالما الدولة تحارب الإرهاب وتكافح الإخوان المسلمين وتواجه ضغوطا خارجية. وتحول غضب المصريين إلى حالة من حالات السخرية من النظام وإطلاق النكات التي وصلت ليس فقط إلى الرئيس عدلي منصور ونائبه محمد البرادعي، بل وإلى الفريق عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع وإلى الجيش والشرطة معا. الأمر الأخير مخيف نسبيا على الرغم من أنه يبدو تافها وعابرا. ولكن إسقاط الهيبة قد بدأ، وهو أولى خطوات المصريين تاريخيا في إسقاط حكامهم، وهو أيضا ما حدث مع السادات قبل مقتله، ومع كل من مبارك ومرسي!
الأخطر في الأمر، أن يوم الاثنين 12 أغسطس الحالي، شهد تفاقم أزمة عمال شركة السويس للصلب، حيث وقع صدام بين العمال المعتصمين وبين قوات الجيش الثالث والشرطة وصلت إلي اعتقال بعض العمال وتوجيه تهمة "قطع الطريق" إليهم، ومنع آخرين من دخول المصنع، ولم تتم الاستجابة لمطالب العمال المعتصمين. هذه الخطوة تزامنت مع ذكرى إعدام العاملين خميس والبقرى في 12 أغسطس 1952 بعد إضراب العمال في كفر الدوار، أي بعد أقل من شهر على قيام "سلطة يوليو". هذه الخطوة وصفها الكثيرون بأنها فشل للنظام الجديد بكل أركانه وأعضائه في أول امتحان حقيقي. بينما الأخطر من ذلك هو لجوء المصريين إلى المقارنة بين إضرابات العمال للمطالبة بحقوقهم، واعتصامات طائفة دينية لتكريس الطائفية في أركان الدولة. وما لبثت المقارنات أن تحولت إلى سلاح السخرية المصري الذي يسقط هيبة الحاكم تمهيدا لإسقاط هيبة النظام، أي نظام!
هناك مغالطة خطيرة جدا دأب المتحولون والباحثون عن أسياد جدد وآلهة من عجوة يرددونها بصور مختلفة، ألا وهي أن "وزيو الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي هو حامي حمى الديمقراطية في مصر". هذا الكلام غير دقيق ومخالف للواقع والحقيقة والتاريخ. وذلك لسبب بسيط للغاية: لم تكن في مصر أصلا أي ديمقراطية ولا توجد إلى الآن! فهل يقصد السادة المتنطعون بالتبريرات وهواة ومحترفو مسح الجوخ والقوادة السياسية بأن السيسي هو حامي ما يوصف بديمقراطية مبارك؟! وهل لذلك تحديدا علاقة بنظام مبارك؟ أم أن هناك بوادر، وربما جهود، لاستعادة نظام مبارك بديمقراطيته السعيدة ولكن بوجوه وأقنعة أخرى شبابية تفيض حيوية وحبا للوطن؟! هذا الكلام لا يعني إطلاقا أن الإخوان وحكوماتهم كانوا جيدين أو أفضل من النظام الحالي بكل أركانه! فالسلطة التي تهاجم العمال والكادحين وتفرق مظاهراتهم واحتجاجاتهم، ولا تستطيع أن ترفع رأسها أمام اعتصامات طائفية بل وتجري معهم مفاوضات عن طريق وساطات، هي سلطة لا تختلف كثيرا عن سلطة الاستبداد المباركي أو الفاشية الإخوانية!
أعتقد أنه على الرغم من الظروف السيئة التي تعيش فيها، وتمر بها، القوى اليسارية بمختلف توجهاتها، لم يكن أحد يتصور أن تأتي إلينا ثورة 25 يناير بنظام اشتراكي أو حتى بنظام ذي وجه إنساني لكي يحقق شعار العدالة الاجتماعية. من الصعب أن نتصور أنه بعد سقوط كل من نظام مبارك والإخوان، سيأتي نظام وطني 100٪ يحقق كل المطالب التي رفعتها الثورة، خاصة وأن النظام القادم نظام هجين بين العسكر والليبراليين والتكنوقراط وبقايا نظام مبارك والاتجاهات الإسلامية الليبرالية في ظاهرها. هذا النظام الجديد سيعتمد بالدرجة الأولى على مكافحة الإرهاب (كحجة لبقائه أطول مدة ممكنة وكغطاء لاتخاذ أي إجراءات استثنائية)، وكذلك الدوران فقط حول القضايا الطائفية وقضايا الفساد، والحريات بالمفاهيم الشكلية التي تتضمن جملة من المبادئ الهجينة وغير الواضحة. مثل هذا النظام سيعتمد بالدرجة الأولى علي القبضة الأمنية - الاستخباراتية للأجهزة الأمنية والجيش، وعلى تبريرات وتخريجات ومعالجات الليبراليين الجدد الذين يشكلون جناحا هاما في هذا النظام، سواء من داخله أو من خارجه.. وستنشب الصراعات الظاهرية بين النظام وبين التيارات الإسلامية المتشددة، بينما ستجري محاولات احتواء التيارات الإسلامية التي يتصورها الليبراليون "معتدلة!!"، وفي الوقت ذاته سيتم إعلان الحرب علي التيارات الجهادية والإرهابية حتي وإن أصبحت ضعيفة أو غير موجودة! الأهم من كل ذلك، أن حربا حقيقية ستعلن علي القوى القومية والوطنية والقوى الاشتراكية، وستحرص جميع مكونات النظام الجديد على عدم وصول أي قوى اشتراكية حقيقية إلى الحد الذي يهدد وجود هذا النظام الهجين. وربما قد يتم التضييق علي عمل الأحزاب والتنظيمات الاشتراكية، مع إعلاء شأن الأحزاب والتنظيمات ذات الصبغة اليسارية عموما لتجميل مشهد التنوع السياسي! وفي كل الأحوال سيُظهِر النظام الجديد نفسه كنظام وطني وقومي وليبرالي واشتراكي بنتيجة خدعة التنوع هذه.. وسيمنح نفسه كل النياشين والقلادات الوطنية والقومية والاشتراكية مرتديا قناع حامي حمى الديار والقادر الوحيد على مواجهة الإرهاب والحفاظ على وحدة واستقلال أراضي الدولة وسيادتها.