إذا أردت أن تدمر بلدًا، فليس عليك إلا أن تضع الرجل غير المناسب، في المكان غير المناسب، فعندئذٍ ستحدث عملية أشبه ما تكون «بالالتهام الذاتي»، أو التآكل الداخلي، لعناصر القوة في المجتمع. هذه القاعدة، هي ما اعتمدت عليها الاستخبارات الأمريكية، في الحرب الباردة، مع الاتحاد السوفيتي، فأدت إلى انهياره متشظيًا إلى دويلات، بعد أن كان إمبراطورية عظمى، حتى بداية تسعينيات القرن الماضي.
ووفق هذه القاعدة، أحسب أن أحدًا استمع لخطاب محمد مرسي، لم يشعر بأن الرجل غير مناسب، في مكان غير مناسب، وفي مرحلة تاريخية بالغة الحساسية والحرج، الأمر الذي يوحي بأن مكوثه على كرسي الحكم، لفترة أطول، سيكون أخطر مؤامرة، وربما كارثة، تواجهها مصر.
سيبادر أحدهم إلى نفي هذا الرأي زاعمًا بأني أتجنى على الرئيس الشرعي المنتخب، الذي لا يعدم المؤيدين.. وردًا على هذا المبادر المدافع المنافح، أقول: هؤلاء زمرة من أبناء السمع والطاعة، من جماعة الرئيس وعشيرته، وهم لا يرون للرجل عيبًا، ولا يبصرون فيه نقصانًا، وهذا طبيعي لأن «عين الرضا عن كل عيب كليلة» كما يذهب الإمام الشافعي، وكذلك لأن «القرد في أمه غزال» كما يقول المثل العامي.
وبعيدًا عن رأي الأهل والعشيرة، في خير من تسعى به قدمُ، الرجل البار الصالح، الذي رآه أحد المكشوف عنهم الحجاب، أو بتعبير أدق، عن «مؤخراتهم» الغطاء، في المنام، وهو يؤم الرسول، صلى الله عليه وسلم، في الصلاة، وبمنأى عن المجاذيب والدروايش الذين يصدقون بأن لمرسي كاريزما آسرة، وشخصية طاغية.. فقد أثبت الخطاب المطوّل الفارغ، أن الرئيس ليس الرجل غير المناسب فحسب، وإنما هو رجل مغيب غائب عن الوعي، أو بالأحرى منعدم الوعي، وذو جلد أسمك من جلد وحيد القرن، المسمى في اللغة العربية بالكركدن!
علامات الانفصام عن الواقع، لم تبدُ فقط، في تجاهل الخطاب أن ثمة ثورة، تكاد تدق المسمار الأخير، في نعش جماعة الإخوان، ولا في التخاريف، بأن أزمة البنزيم -هكذا نطقها الدكتور مرسي بالميم لا النون- ترجع إلى أن عمال المحطات، يبيعون السلعة الاستراتيجية، بالسوق السوداء، وبأن أزمة الكهرباء، سببها عامل لئيم، «يسحب السكين»، مقابل عشرين جنيها، لقطع التيار بعض ساعات يوميًا، ولا في أن رفع الحد الأدنى للأجور، لم يزد المعدمين إلا عدمًا، بسبب التصاعد المجنون للأسعار، وركوع الجنيه أمام الدولار الأمريكي.
كما لم تقتصر علامات الانفصام، على التعامي عن أن الدم المصري يراق، في حروب معارضيه ومؤيديه، فيما هو يلقي النكات السخيفة الباردة، و«يفشخ ضبه» مستظرفًا، ولا في إقراره الصريح بالفشل، إذ ارتأى أن الانقسام الحاد بين المصريين، إلى حد التقاتل، يعد ثمرة من ثمار ديمقراطيته.
صحيح أن كل ما سبق، يمثل مؤشرات انفصام حادة، لكن الأمر ليس يحمل مفاجأة، فما من عاقل يتوقع من مرسي أن يقول شيئًا ذا أهمية، فقد ألفناه خارج السياق، بعيدًا عن المنطقية «فكاهيًا»، يتحدث عن القرود والأصابع العابثة و«التوك توك»، وعهدنا خطاباته مادة ثرية لباسم يوسف، الذي يكاد يكون المستفيد الوحيد من دخوله قصر الرئاسة!
لكن المفاجأة الحقيقية، والانفصام الأشد، بدا واضحًا، إذ كشف مرسي عن نواياه، بأخونة الدولة كليًا، عبر إصدار الأوامر، للوزراء والمحافظين، بإقالة من سماهم الفاسدين، دون أن يفصح عن المعايير التي سيتم بناءًا عليها، تحديد من هو فاسد طالح، ومن هو نافع طالح، والأرجح أن الأمر سيخضع للهوى، لا القضاء الذي يكرهه مرسي، إلى حد وصفه تلميحًا وتصريحًا، بالمضلل المزور، ما يعني أننا قد نجد إرهابيًا سابقًا، وخريج سجون، يتولى محافظة سياحية، لأنه من الأهل والعشيرة، ليس إلا، من دون أن يتورع الرئيس، عن الادعاء باطلًا، بأنه «لا تشوبه شائبة».
ليس في الخطاب ثمة جديد إذن.. فمنهج الاستحواذ الذي يؤجج ثورة «تمرد»، مايزال يحدو بالرئيس وجماعته، نحو الهاوية، والأحذية التي ارتفعت أمام شاشة العرض بميدان التحرير، ردت على الخطاب أبلغ رد، والحناجر التي هتفت، ما أن انتهى الكلام الرتيب المكرور، بفعل الأمر «ارحل»، والمظاهرات التي انفجرت في المحافظات، تطالب بإسقاط حكم المرشد، كلها تداعيات ومظاهر كاشفة عن أن الهوة بين الشعب والرئيس، تزداد عمقًا واتساعًا، فيما الرجل «يلجلج» سادرًا في غيه، مصممًا على تنفيذ أوامر مرشده وشاطره، بضرورة حث الخطا نحو ابتلاع مصر، على مرة واحدة، كما يبتلع متضور جوعًا بيضة مسلوقة، ستقف في حلقه لا محالة، وستؤدي إلى اختناقه، دون أن يجد من يمنحه شربة ماء!