مستحيل أن أصف لحضرتك نوع المشاعر التي انتابتني وأنا أسمع قبل أيام واحدًا من «الأشياء» الحكومية المقرفة وهو يتحدث علي شاشة إحدي الفضائيات مبررًا السفالة والارتكابات المشينة ضد البنات والنساء اللاتي يشاركن في التجمعات والمظاهرات السلمية، بكلام مروع معناه أن «البنت أوالست المحترمة» لايجب أن تشارك في مثل هذه الفاعليات الاحتجاجية المتحضرة الراقية وإلا «فذنبها علي جنبها»!! وقد ذكرتني وقاحة هذا «الشيء» الخرافية والمعاني الواطية الراقدة في تفوهاته بالقصة التالية: يحكي أنه في نهاية عصر المماليك، عرف خلق الله المقيمون في ناحية «إمبابة» مملوكًا طيبًا و«ابن حلال مصفي» ويتمتع بمظاهر تقوي وورع شديدين يشي بهما مثلا التزامه الصارم بأداء الصلوات الخمس في مواقيتها بالضبط، فالفجر فجرًا، والظهر حاضرًا، والعصر في موعده تماما، وكذلك المغرب والعشاء. لكن الرجل، مع هذا الالتزام الصادق بأداء فروض الدين، ظل مواظبًا علي ممارسة طقس معين صار بالزمن هواية استبدت به وأضحت متعته الوحيدة ووسيلته للتسلية ودفع الملل والسأم عن نفس حضرته، فهو كان حسب كُتَّاب سيرته ما إن ينتهي من صلاة العصر ويستغفر ربه بعدد حبات مسبحته ال 66، يقوم فورًا إلي دكة منصوبة تحت أغصان الجميزة العتيقة التي تداعب بظلالها الناعمة الجدار الغربي لقصره المنيف، وفيما هو يمد رجليه علي الدكة فإن يده كانت تذهب بقوة العادة إلي حيث نرجيلته المدندشة بدلايات من فضة وذهب.. ويبدأ بمسح مبسمها في صدره قبل أن يدسه في فمه ساحبًا نفسًا عميقًا يزمجر ويكركر له قلب النرجيلة المسكينة، وقد تمر لحظات بطول دهر وصاحبنا الطيب يعتقل المبسم بين شفتيه حابسًا دخان المزاج في صدره قبل أن يأتي الفرج أخيرًا للدخان فينطلق مذعورًا من منخار الرجل إلي الفضاء الرحب الفسيح. يعيد المملوك الكرة وتكرر النرجيلة كركرتها المحمومة مرة بعد مرة حتي يسبح في خدر لذيذ ويستقر في حال بلهنية حلوة يفضحها تردده في ترك ذراع الأرجيلة لحال سبيله، وكان يوميًا بعدما يكتمل مزاجه ويروق تمامًا يشير إلي واحد من جيش الطواشي والعبيد المتناثرين في المكان فينبري أحدهم فورًا ويناوله بارودة (بندقية) ملقمة وجاهزة للضرب.. ودون أن ينسي البسملة، يقبض الرجل التقي الورع علي البارودة وهو ينهض متحمسًا من رقدته علي الدكة ويستدير موليًا وجهه نحو الطريق المترب الضيق الذي يمر بمحاذاة ضيعته، ويبقي هكذا واقفًا متأهبًا ومنتصبًا كزنهار حتي يأتيه الرزق.. عابر سبيل من الفلاحين الغلابة يصطاده الباشا الطيب بطلقة فيسقط مضرجًا في الدم، وعندها ينفجر ضاحكًا مقهقهًا وقد أخذته النشوة إلي أعتاب الجنون، ثم يمد يده بالبارودة الفارغة إلي العبد الواقف خلفه ليبدلها له بأخري معمرة وجاهزة لصيد جديد!! وهكذا يمر الوقت مفعما بالنشوة والإثارة حتي تبدأ الشمس في لملمة أشعتها مؤذنة بحلول صلاة المغرب، حينئذٍ يهرول الباشا المملوك لتأدية الفرض!! ضج الناس سكان الناحية المنكوبة من عمليات قنص البشر التي يمارسها الباشا يوميًا بغير كلل ولا ملل، ولم يجدوا سبيلا لوقف هذه المجزرة إلا أن يكلفوا وفدًا منهم بالتحرك في طلب التشرف بلقاء جناب الوالي للاستجارة به والشكوي إليه.. وصل الطلب فعلا إلي قصر الوالي مشفوعًا بوساطة الوجهاء والكبراء فتكرم وتعطف جنابه وأمر بأن يأتيه وفد إمبابة، فلما مَثُل الإنبابيون بين يديه واستمع منهم إلي تفاصيل الحكاية الدامية كاملة، أطرق جناب الوالي وبقي وقتًا طويلاً صامتًا متيسًا ولولا أنه كان بين الحين والآخر يتجشأ أو يزوم لظن الوفد أن السر الإلهي صعد وأن جنابه مات، لكنه أخيرًا نطق ورفع رأسه التي كانت مائلة علي كرشه العظيم وبدا كأنه يحدث نفسه وهو يقول: آآآه.. الباشا بيهوي وبيحب صيد الفلاحين في العصاري، والفلاحين الملاعين بيحبوا الحياة ومتمسكين بيها.. ليه ؟مش عارف! قالها وعاد للصمت والخرس من جديد وبدا غارقًا في تفكير حائر وطويل قطعه فجأة بحكم أذاعه علي الملأ عندما هتف بصوت مجلجل: - نحن جناب الوالي المعظم، أمرنا بمنع الفلاحين الموجودين في ناحية إمبابة من المرور بجوار ضيعة الباشا (فلان) من وقت أذان العصر حتي المغرب يوميًا، والمخالف لأوامرنا ذنبه علي جنبه.. انتهت المقابلة!!