لا تملك إلا أن تحترمه وتقدره أديبا كبيرا وناقدا عظيما، ولا تملك إلا أن توقره وتعشقه إنسانا محترما ونفسا طيبة. هو بالتأكيد ليس نجما من نجوم المؤتمرات الثقافية، ولم يكن عضوا فى الحظيرة المقربة لعلية القوم، كان يكره المحاسيب والشللية. لم ينزلق قط إلى معارك لن تجدى ولن تسمن، رأيناه شامخا فى كل الأوقات، حتى فى المحنة الكبرى، وهو على فراش المرض، وفى غرفة العمليات يجرى جراحة فى القلب. وحتى وهو يقف وقفته الآن أمام جهل وظلام الإخوان، اختار أن يكون عظيما، يقدم نصائحه للمصريين الأصليين بضرورة الثورة للكرامة. هكذا هو علاء الديب. ■ كيف ترى حكم جماعة الإخوان المسلمين لمصر؟
- جماعة الإخوان هى عبارة عن جملة غير مفيدة وسطر مقلوب فى تاريخ مصر، فلا مستقبل لهم، لأنهم ما زالوا يعيشون فى القرن السابع الميلادى «قرن نزول العقيدة الإسلامية»، التى لم يتجاوزوها بعد. وعلى الرغم مع محاولات التنوير المستمرة فى الفكر الإسلامى، تراهم وآباءهم من الظلاميين يعودون بنا إلى الخلف مرة أخرى.
وهو ما يحدث حاليا، فالإخوان وأنصارهم يفتقرون إلى الإبداع وإلى الخيال وإلى الكفاءة، فى كل شىء، سواء كان الأمر متعلقا بالسياسة أو بالاقتصاد أو حتى بالثقافة، هم يسيرون من فشل إلى فشل، فالعالم كله فى حركة تغيير وصعود مستمرين، أما نحن فنسقط إلى القاع على يد هذه الجماعة المتجمدة فكريا.
أمريكا نفسها تتغير، فهى تبنى علاقتها على أساس المصلحة اليومية، فأوهام الأيديولوجيات انتهت من العالم يا سادة، ولا بد أن نحاول حل المشكلات اليومية التى تواجهنا بإبداع فكرى، لا بهذا الجهل والتخلف.
■ وهل التغيرات الفكرية التى حدثت فى دول العالم أثرت بشكل أو بآخر على وصول الإخوان إلى الحكم فى مصر؟
- بالتأكيد، فتنامى أفكار اليمين فى بعض دول العالم هو رد فعل لانهيار الكتلة الشيوعية المتمثلة فى تفكك الاتحاد السوفييتى، ولكن الفكر الاشتراكى لم يسقط تماما، هو واجه ضرورة فى التغير لاكتشاف حلول لبقاء قيمه المتمثلة فى «الحق والحرية والعدالة»، وهى قيم لم يتخل الإنسان عنها منذ أن عرف الحضارة، ولن يتخلى عنها إلى أن ينتهى الخلق.
■ هل يمثل الإخوان خطرا على الثقافة المصرية؟
- نعم، الثقافة المصرية سوف تعانى محنة شديدة فى ظل وجود الإخوان، وفى ظل وجود أى جماعة أو تنظيم متشدد، ويحضرنى الآن مثل، أتذكره باستمرار، وهو حادث لا أدرى لماذا لم يكتب عنه أحد باهتمام، على الرغم من أن صاحبه الأستاذ أمين الخولى ذكره فى مقدمة كتابه «اللغة العربية من وحى القرآن الكريم».
كان علماء اللغة فى منتصف عشرينيات القرن الماضى، فى محاولات مستمرة للتوصل إلى أصول اللغات من خلال منهج علمى، مستخدمين فى ذلك علم الحفريات، وكان الخولى وقتها متطلعا لما يحدث فى أوروبا والعالم الحديث، كما كان مؤمنا بالمنهج العلمى أشد الإيمان، ففكر فى تطبيق ذلك على اللغة العربية، وحاول دراستها فى مهدها فى الجزيرة العربية. وبالفعل استطاع أن يوفر غطاء بحثيا من جامعات العالم، ومنها أكسفورد، وحصل على اعتمادات مؤسسية ومالية، واستطاع أن يجمع وقتها مليونى جنيه إسترلينى، وهو مبلغ كبير جدا فى هذا الوقت من القرن الفائت، ولكن العجيب أن مشروعه قوبل برفض كبير من جانب السعودية، التى كانت فى أوج الحكم الوهابى، وتحججوا بأن اللغة العربية هى لغة مقدسة، وغير مقبول أن يتجرأ أحد عليها بالعلم.
■ ولماذا يكره المتشددون العلم فى كل زمان ومكان؟
- لأنه ببساطة يسلب منهم ما يستندون إليه وما يعطيهم المبرر للبقاء، فالإخوان مثلا يقولون «أنا معايا ربنا إنت معاك مين؟» هذه هى فكرة مغلوطة، لأن الله ليس مع فريق ضد فريق، كما أنه حض فى قرآنه على العلم والتعلم والتدبر، فلن يستطيع المرء فعل أى شىء إلا بالمنهج العلمى.
أذكر أيضا ما حدث مع طه حسين وصدامه المبكر بالظلاميين، وقت محنة كتاب «الشعر الجاهلى»، الذى حاول خلاله استخدام المنهج فى دراسة الشعر الجاهلى، ولكن المعركة جعلته يستسلم، ليصبح بعد ذلك مستوردا للنتائج من الخارج، دون البحث عن المنهج. فصدام الفكر التنويرى والفكر الظلامى، قائم وسوف يظل قائما، فالظلام هو ما يعطى المتحجرين مبررا للبقاء.
لذلك أنا لا أجد إطلاقا جدوى للنقاش والحوار مع جماعة الإخوان المسلمين، ولا يمكن أيضا أن أصلى وراء إمام منهم، ويحضرنى مشهد رأيته بعينى فى إحدى دول الخليج، عندما رأيت شخصا يصلى، ويخرج «الفلوس» من جيبه، ويعدها، وهذا ما يفعله الإخوان المسلمون الآن. هم يضحكون علينا بابتساماتهم وبتسامحهم وبتدينهم، بينما هم يركزون فى شىء آخر، وهو التمكن من مصر.
■ كان لك تجربة عابرة مع جماعة الإخوان فى شبابك.. حدثنا عنها.
- انضممت أنا واثنان من جيرانى ذوى الأصول التركية إلى شعبة الإخوان فى منطقة المعادى. كان لهم أخت تدرس فى الجامعة الأمريكية، وتسير دون حجاب، فحاولوا الضغط عليهم حتى تترك الجامعة وترتدى الحجاب، وهو ما رفضناه تماما، لذلك قررت الخروج من جنتهم سريعا. علاقتى بهم انتهت تماما بعد أن بدأت أقرأ فى الفلسفة وتاريخ الحضارة والأدب، أحسست أن حديثهم عن الدين مغلق وثقيل ومكرر، وطريقة تفكيرهم ظلامية إلى أبعد الحدود.
■ وهل يقرأ الإخوان؟
- لا، بالتأكيد لا، ولا أمل أيضا فى ذلك. ما لديهم فقط هو فكرة قديمة عن التمسك بتطبيق الشريعة، كرد فعل على فشلهم فى الوصول إلى حكم عادل وإلى مساواة إنسانية ناضجة. يبحثون فى حفرياتهم عن أمور قائمة فى الفكر الغيبى، للضحك على البسطاء، فهم جماعة سلطوية فاشية، مستندة إلى الدين، لأنهم يعلمون أنه سلاح خطير، فيرمون من أرادوا بالكفر، ويرمون من أرادوا بالإيمان، وعموم الشعب المصرى بطبيعتهم لا يودون أن يقال عليهم إنهم كفرة، وهم ليسوا كذلك.
■ كيف نواجه ظلام الإخوان؟
- لا أود أن نخوض فى معركة مع الفكر الدينى، أو الانزلاق إليهم فى حرب أهلية، لأن المعركة فى الأساس ليست كذلك. هم يتسترون وراء الدين ويطوعون بعض أفكار السلف المتشددة لخدمة مشروعهم، ولذلك لا بد أن نقاومهم بالتنوير، وبكل أشكال الإبداع. أما أهم الأسلحة فى اعتقادى فهو محو أمية الشعب، فهو تحدٍّ كبير لا أدرى لماذا فشلت كل المشروعات السياسية والفكرية فى القضاء عليها، على الرغم من أن دول أمريكا اللاتينية مثلا وهى دول تنتمى للعالم الثالث مثلنا، استطاعت محو أمية شعوبها فى وقت قصير.
■ وهل تجربة محمود طه المفكر والمثقف السودانى الذى أعدمه نظام الترابى عام 1985 من الممكن أن تتكرر فى مصر؟
- ربنا يستر، لأن محمود طه كان يفكر بحرية فى تطبيق أحكام تعود إلى القرن السابع الميلادى على بشر وعالم يتحرك ويتغير فى القرن الحادى والعشرين، ومن أعدمه هو الترابى، ويوجد فى مصر 100 ترابى.
■ هل تعتقد أن هناك قصدية من الأنظمة الديكتاتورية المتعاقبة فى مصر فى بقاء الأمية على حالها؟
- أعتقد أن هناك رغبة فى الإبقاء على هذا الوضع، حتى تبقى الديكتاتوريات.
■ هل ضلت الثورات العربية طريقها فعلا؟
- الثورة لن تموت، ولن تمحى من تاريخ مصر، و«ودم الولاد مش هيضيع»، وما يحدث الآن موجة من موجات الثورة المضادة المتوقعة. الثورة سوف تستجمع نفسها وسوف تجد طريقها.
■ ما تقييمك للتجربة الاشتراكية فى مصر؟
- للأسف كل التجارب كانت تفتقد للمؤمنين بها، فالتجربة الاشتراكية كانت دون اشتراكيين، والتجربة القومية افتقدت للقوميين، فهناك فشل كبير فى التنظيم، لهذا يتفوق الإخوان، فى هذه المنطقة بالتحديد، ويظهر هذا فى أى انتخابات يخوضونها.
الراحل أنور السادات أيضا أسهم بشكل كبير فى ما نحن فيه الآن، بداية من محوه طريق عبد الناصر، وزرعه بذور الانفتاح الاقتصادى وثقافة المصطبة والتعديلات الدستورية، واعتماده على التحالف مع الإسلام السياسى ضد المثقفين والسياسيين الاشتراكيين.
■ وما تجربتك فى التنظيمات الشيوعية؟
- كنت منتميا للحزب الشيوعى المصرى وقت دخولى إلى كلية الحقوق، وخلال أول سنتين كنت أقوم بتكليفات وأوزع المنشورات، ولكن أغرتنى مكتبة الجامعة وكتبها، فأهملت العمل السياسى، حتى إن المبدع والناقد الكبير إبراهيم منصور رحمه الله، المسؤول عنى فى التنظيم، عنفنى بشدة، لإهمالى التكليفات، ولكن نداهة الكتب قد ندهتنى.
أما فى بداية السبعينيات، وقت ثورة السادات على المثقفين والسياسيين الناصريين والتى سمها هو ب«ثورة التصحيح»، وجدت اسمى فى الصفحة الأولى على جريدة «الأهرام» كواحد من كبار المتآمرين على البلد «مع إنى ماعرفش حاجة»، كما تكرر الموقف أيضا قبل حرب أكتوبر 1973، ومنذ هذا الوقت هربت من السياسة إلى الأدب، وفعل غيرى ذلك، بينما لم يفعل كثيرون وحاولوا المقاومة، بينما مال البعض للانتهازية والدخول فى دهاليز السلطة.
■ هل تميل إلى العزلة؟
- نعم، فى السبعينيات فرضت على نفسى عزلة اختيارية، وفى الألفينات فُرضت علىّ عزلة صحية. أميل إلى العزلة والقراءة والكتابة، والعمل بالسياسة يحتاج إلى الاتصال المباشر بالناس، وأنا عندى مشكلة طوال عمرى إنى لا أملك قدرة للاتصال بالناس، فكان اتصالى المباشر بالكتب.
■ أعلم أنك عندما كنت مسؤولا عن نشر الأعمال الإبداعية فى «روزاليوسف» و«صباح الخير»، كنت تختار أعمال المغمورين.. لماذا؟
- أرى أن مساعدة الأجيال الجديدة هو الأكثر إفادة لهم ولى فى الوقت نفسه. «لسه عندى أمل إنى أكون مبدع»، فسواء كان العمل جيدا أو رديئا أستطيع رؤية شىء ما به، وأستطيع أيضا أن أتعلم منه.
■ ومَنْ أهم المغمورين الذين ساعدتهم فى بداية حياتهم ثم أصبحوا كتابا كبارا؟
- أهمهم على الإطلاق هو إبراهيم أصلان رحمه الله. كان لنا صديق مشترك اسمه محيى الدين محمد من النوبة، وكان يعمل مع أصلان فى (شركة ماركونى) المعنية بإرسال واستقبال البرقيات بين القاهرة وعواصم العالم عبر اللاسلكى، فحدثنى عنه، كنت وقتها أتولى مسؤولية نشر الأدب والقصص فى «روزاليوسف» و«صباح الخير» وقت تولى الأديب فتحى غانم رئاسة التحرير، فأحضر لى أصلان وقتها 10 قصص قصيرة، «اتجننت بيهم جدا»، وبالفعل نشرنا أربع قصص متتالية فى «صباح الخير»، و«دى كانت انطلاقة أبو خليل».
■ بماذا تقيم تجربة المبدع الناقد.. خصوصا أنك مارست العملين فى وقت واحد؟
- تجربة المبدع الناقد، تحتاج إلى قدر كبير من الأمانة والصراحة مع النفس، إذا توقفت عن التعلم فى يوم من الأيام، فعليك أن تترك القلم فورا. كل مرة أكتب فيها عن عمل قرأته أكتشف فيه عالما جديدا، ومحاولة لصياغة الأفكار التى وصلت إليها، وهذا ما جعلنى مستمتعا، دون النظر إلى المادة، و«لولا إنى أبويا هو اللى بانى البيت اللى أنا عايش فيه دلوقتى متهيألى ماكنتش هلاقى آكل».
■ هل تصل التجارب الإبداعية إلى ضمير الشعب؟
- من بعد نجيب محفوظ، لا أستطيع أن أؤكد أن هناك إبداعا حرك الضمير المصرى، مع احترامى الشديد لإبداع جيل الستينيات، وأنا كنت واحدا من هؤلاء، ولكن أرى أنها كلها تجارب، لم تصل إلى الضمير المصرى إلا ربما عن طريق تحويل أعمالهم إلى مسلسلات إذاعية وتليفزيونية أو أفلام سينمائية.
■ ألم يحدث ذلك مع محفوظ ذاته؟
- لا نجيب محفوظ كان متحققا قبل التحاقه بقطار السينما، فكان واصلا إلى درجة كبيرة للاتصال بالضمير المصرى. حتى فى الجزء الأخير من حياته عندما كتب «أحلام فترة النقاهة» و«أصداء السيرة الذاتية» فقد وصل فى هذين العملين إلى حالة غير مسبوقة من الإبداع الأدبى والقدرة البلاغية النادرة.
■ كتبت حوار فيلم «المومياء» للمخرج شادى عبد السلام.. فلماذا لم تكرر التجربة؟
- حاولت بعد ذلك أن أقوم بمشروع عمل سينمائى كبير عن تهجير أهل النوبة فى أثناء مشروع السد العالى، لأننى عشت معهم تجربة التهجير إلى كوم أمبو، وبالفعل قمت بعمل معالجة درامية للعمل، وذهبت به إلى مؤسسة السينما التى كان يديرها صلاح أبو سيف وقتها، فرفض وقال «يصعب تنفيذه».
■ كتبت عن قاهرة الخمسينيات فى روايتك «القاهرة» التى صدرت عام 1964.. كيف ترى الفارق بين القاهرة التى كتبت عنها والقاهرة الآن؟
- القاهرة الآن أصبحت مكانا لا يحتمل ولا يطاق، فأحاطت بها العشوائيات من كل جانب. القاهرة أصبحت منتهكة، لا خصوصية لها ولا شكل. وحال القاهرة هو حال مصر التى تعاقب عليها مجموعة من الحكام الجهلة والفاشلين فانتهكوها، لذلك أود أن أقول للمصريين يجب أن تثوروا لكرامة الوطن لا لشىء آخر.
■ ما أقرب إلى قلبك.. علاء الديب المبدع أم المترجم أم الناقد؟
- الأقرب إلى قلبى هو علاء الديب القارئ، «وطول ما الواحد قادر يعيش لا بد أن يقرأ ويتعلم».