بعد أسبوعين من التصريحات الهامة من جانب معاذ الخطيب رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارض بشأن الحوار مع النظام السوري أو اللقاء مع النظام وبقية أطراف المعارضة في موسكو أو في أي مكان في روسيا المترامية الأطراف، وبعد شد وجذب في المواقف، وتأكيد ونفي لتصريحات بعينها، أعلن وزير الخارجية السوري وليد المعلم استعداد دمشق لإجراء محادثات مع المعارضة، بما فيها المعارضة المسلحة، قائلا إن الحكومة السورية مستعدة للحوار مع كل من يريده حتى من يمسك السلاح في يديه. وأعرب المعلم عن ثقته بأن الإصلاحات لن تسير عبر إراقة الدماء، وإنما عبر الحوار. وأضاف في مؤتمر صحفي في موسكو أن ما يجري في سورية حرب على الإرهاب، مشيرا إلى أن أحد فروع تنظيم "القاعدة" يقوم بأعمال قتال أساسية في سورية ودعا ذلك الفرع إلى سورية مقاتلين من 28 بلدا، بما فيها الشيشان، حسب تعبيره. لا يخفى على أحد كيف استقبلت دول العالم انتفاضات شعوب المنطقة ضد الأنظمة الاستبدادية التي كانت تتعامل بحرية تامة وكاملة مع الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا، بل وكانت تحصل منها على معونات ومساعدات. لقد استقبلتها روسيا والصين باستهانة وانتقادات، وفي أفضل الأحوال بحذر. بينما تعاملت واشنطنولندن وباريس معها وفق براجماتية تليدة. فتملصت سريعا من الأنظمة الاستبدادية التي أصبحت تشكل عبئا عليها وعلى مصالحها، وأعادت على الفور علاقات المحبة والاحترام والتقدير مع القوى اليمينية الدينية المتطرفة. فأصبحت هذه القوى "معتدلة" في لمح البصر بل ومختلفة تماما عن القوى "المتطرفة".
وبات من الطبيعي أن تقبل شعوب المنطقة بأنظمة ظلامية وعنصرية ومعادية للتقدم والحريات والحقوق المدنية والأفكار العلمانية مقابل أن تنأى بنفسها عن القوى الإرهابية المسلحة التي جاءت بعلم الجميع وبمساعداتهم من أفغانستان والعراق وليبيا وكوسوفو والقوقاز.
منذ أسبوعين والتصريحات الروسية والأمريكية تتخذ إزاحات خطيرة ومثيرة للشكوك. وبطبيعة الحال، كان من الطبيعي أن تحدث إزاحات في تصريحات كل من النظام السوري والائتلاف الوطني السوري المعارض. لقد أصبحنا الآن أمام مربعا مرنا للغاية تطول أضلاعه وتقصر، وأحيانا تتلاشى المسافات بين هذا الرأس أو ذاك وفقا لاتفاقات برجماتية تتم خلف الأبواب الموصدة. وذلك على عكس التصريحات التي تطلقها كل من موسكووواشنطن، أو باريس ولندن وبكين. فالتصريحات مجرد تغطية على "مؤامرات" حقيقية يجري نسجها في كواليس السياسة الكبرى بالضغط على النظام السوري تارة، وعلى الائتلاف الوطني المعارض تارة أخرى.
وتم التوصل في النهاية إلى تليين مواقف الائتلاف حتى أنه أصبح من الممكن أن نفاجأ بممثليه حول طاولة المفاوضات مع ممثلي الأسد وبالتحديد في موسكو. كما فوجئنا أيضا بأن وزير الخارجية السوري، أصبح لا يفرق جيدا، كما كان حريصا في السابق على ذلك، بين المعارضة وبين "المعارضة المسلحة"!! فهو ونظامه على استعداد للجلوس مع كل "أنواع المعارضة بما فيها المسلحة". إذن، لماذا كان من الضروري تحويل سورية إلى دولة فاشلة وقتل أبناء الشعب السوري، وتدمير البلاد إلى حد يصعب معه إعادة بنائها دون الاستعانة بواشنطنوموسكووالدوحةولندن وباريس؟!! وسوف تظهر قطعا تفسيرات "لغوية" لتصريحات وليد المعلم من قبيل أنه قال "من أمسك بالسلاح" ولم يقل "من يمسك بالسلاح". وستجري محاولات لتحسين وجه النظام، وتجميل وجه "المعارضة المسلحة"...
هذا يعني أن فكرة "إجلاس الجميع مع الجميع" ومبدأ "الحوار بين أي أطراف" وأطروحة ما يسمى ب "المصالحة الوطنية" هي التي تتسيد ساحة السياسة الكبرى التي كانت تديرها واشنطن ولحقت بها موسكو بشكل يبدو أنه مفاجئ! وأصبح لا مانع الآن من عقد مقايضات ومبادلات تحقق لواشنطنوموسكو الحد الكافي من المصالح وتحفظ ماء وجهيهما وتحافظ على معادلات السلطة الداخلية في دول ما يسمى ب "الربيع العربي" وبالذات في كل من مصر وسورية. ففكرة "المصالحة الوطنية" المطروحة حاليا في سورية، والتي ستظهر قريبا في مصر، تتزامن مع اقتراح لكابل بعقد مؤتمر دولي في المملكة العربية السعودية أو مصر للعلماء ورجال الدين يهدف إلى بدء عملية "المصالحة الوطنية" في أفغانستان. وهناك معلومات بأن هذا المقترح صدر بعدما رفض المجلس الأعلى لعلماء باكستان المشاركة في مؤتمر في بكابل بسبب رفض نظرائهم الأفغان مشاركة طالبان في هذه الفاعلية. وكانت الولاياتالمتحدة قد تقدمت في وقت سابق بمبادرة عقد وتنظيم هذا المؤتمر في إطار تنفيذ "خارطة الطريق" الرامية لتحقيق الاستقرار في أفغانستان بعد 2014، عندما سيغادر البلاد الجزء الأكبر من قوات الناتو. وبحسب المعلومات، فإن الجانب الأفغاني أصر على عقد هذا المؤتمر في كابل بالذات، غير أنه أضطر بعد ضغط الولاياتالمتحدة إلى تغيير قراره. وقد تم تأجيل المؤتمر مرتين في السابق، وفي نهاية المطاف اتفقت باكستانوأفغانستان على عقده يوم 10 مارس 2013.
غير أن علماء الدين الباكستانيين صرحوا أن عقد مؤتمر بمشاركة علماء ورجال دين أفغان غير مؤثرين وليس لهم نفوذ ومن دون مشاركة "طالبان" هو إهدار للوقت. كل ذلك والولاياتالمتحدة وقطر تتبادلان التصريحات بشأن ضرورة إجراء مفاوضات (وهي جارية بالفعل) مع "طالبان" وإمكانية فتح مكتب تمثيل لها في العاصمة القطرية الدوحة. بل وتصل التلميحات في أحيان كثيرة إلى إمكانية إجراء مفاوضات (هي جارية أيضا وبشكل جزئي) مع تنظيم القاعدة.
إذن، في أي شيء يمكن أن تختلف سورية أو مصر عن أفغانستان وليبيا والعراق وباكستان؟! من الواضح أن موسكووواشنطن تحاولان تسييد هذا المنطق. فهو يخدم النظام الاستبدادي في سورية، ويخدم أيضا النظام الديني المتطرف في مصر. وفي نهاية المطاف سيحافظ على بعض مصالح روسيا ويحقق مصالح الولاياتالمتحدة وفرنسا وقطر وبريطانيا في سوريا الجديدة التي ستنعم بالتقدم والرخاء والازدهار في ظل حكم ديني تحت شعار "الإسلام الديمقراطي الجديد" أو في أحسن الأحوال في ظل "ليبرالية" أشبه بالليبرالية الليبية التي تتحاور أيضا في "مصالحة وطنية" مع ممثلي القاعدة والسلفية الجهادية والإخوان المسلمين الحكام الفعليين لليبيا ما بعد القذافي، والذين يلقون دعما ممن أتوا بهم للقضاء على نظام القذافي. وبالنسبة لمصر، فروسيا تدرك جيدا أن لا ناقة لها ولا بعير هناك منذ عقود طويلة. وما يتعلق بعدد 2 مليون سائح من روسيا سنويا لمصر وشحنات القمح الروسي أيضا للمصريين لا يمكن أن تكون مؤشرا على أي شيء. فالقطاعات الأساسية التي تهم دولة مثل روسيا تم تأميمها لحساب الولاياتالمتحدة منذ أواسط سبعينيات القرن العشرين. والإخوان المسلمون لن يختلفوا كثيرا عن السادات ومبارك، بل يمكن أن يتشددوا ضد موسكو لكي يثبتوا لواشنطن أنهم قادرون على الوفاء بتعهداتهم والتزاماتهم مقابل دعم واشنطن لهم بالبقاء في السلطة.
هكذا يمكن أن نتوقع تغيرات كبيرة في مواقف واشنطنوموسكو والنظام السوري والمعارضة السورية، لنصل إلى جلسات ولقاءات "المصالحة الوطنية" لعدة سنوات قادمة. وهو ما سينسحب على الوضع في مصر أيضا، إذ ستظهر قريبا دعوات روسية – أمريكية لجلسات "مصالحة وطنية" في مصر. وبالتالي تكون واشنطنوموسكو حققتا أهدافهما القريبة جدا. فنظام الأسد سيذهب حتما ولكن برؤية روسية وحفاظا على مصالح موسكو في حدها الأدني بعد أن فقدت كل شيء في المنطقة. ونظام مرسي سيبقى حتما ولكن برؤية أمريكية لتحقيق أكبر قدر من مصالح واشنطن إقليميا ودوليا.
إن كل ما يجري الآن في مصر وسورية محل اهتمام إيران التي تستثمر كل الفرص الممكنة ولا تترك شاردة أو واردة إلا واستخدمتها جيدا. ومن الواضح أن "عملية المقايضة" بين موسكووواشنطن سوف تؤثر على وضع إيران وعلى جميع ملفاتها. وهذا هو أحد العوامل الهامة الذي يمكنه أن يفسد العملية أو يطيل أمد "المصالحة الوطنية!" بمفاجآت غير متوقعة قد تستلزم توجيه ضربات عسكرية إلى إيران. فماذا سيكون موقف روسيا؟! وهل يمكن أن تبدأ طهران بفتح ملفات شائكة وخلافية مغلقة مع موسكو في حال شعرت بأن هناك ما يجري في الكواليس قد يضر بمصالحها ومواقفها وأوضاعها؟! وقد يحدث العكس، ويقوم الغرب بتقديم مقترحات ومبادرات مغرية لإيران!!!
لقد تم تدمير سورية بالفعل. وتم تحويلها إلى دولة فاشلة مثل باكستان والعراق وأفغانستان وليبيا. ولكن تبقى دائما تلك النسبة الضئيلة التي يمكن من خلالها تغيير المعادلات الداخلية لصالح الشعب السوري ونصيبه في التقدم والمدنية والتحديث وضد الاستبداد والتخلف والظلامية والعنصرية الدينية والقومية. وعلى الرغم من أن هذا بالتحديد لا يشغل بال لا واشنطن ولا موسكو ولا عاصمة "النور" باريس ولا لندن، إلا أن الاحتمالات ستظل مفتوحة أمام الشعب السوري. أما في مصر، فحجم الدمار لم يصل بعد إلى مستواه في سورية، ولكنه قد يصبح أشد وطأة ولكن على أصعدة أخرى. وفي كل الأحوال، من الصعب التوقف طويلا عند المقايضات والمبادلات الأمريكية – الروسية، أو المؤامرات الصغيرة التي لا تسبب إلا المزيد من إراقة دماء البسطاء وتدمير مرافق الدولة ومؤسساتها. والمسألة لا تخص لا روسيا ولا الولاياتالمتحدة، بل تخص القوى القادرة على تغيير المعادلات الداخلية لصالحها وإجبار القوى الخارجية على الجلوس خلف "طاولة المفاوضات" لبحث مصالح حقيقية وليس دفع ثمن البقاء في السلطة لهذا الطرف أو ذاك أو لهذه الدولة أو تلك.