الموساد جنّد مجموعة من اليهود المصريين أطلق عليهم «الوحدة 131» مهمتها تفجير المراكز الثقافية الأجنبية مع قيام حركة الضباط الأحرار، فى يوليو 1952، كان على الذين قادوا الحركة، أن يعملوا على ضمان عدم تدخّل القوات البريطانية، الرابضة -حينذاك- فى منطقة قناة السويس، حتى لا يضطرون، فى حالة نجاح حركتهم، إلى خوض حرب داخلية، مع القوات البريطانية، مما قد يؤدّى إلى إعادة انتشارها داخل البلاد، وعودة الاحتلال الكامل مرة أخرى.. فى تلك الفترة، كان ميزان القوى العالمية قد اختلف، ولم تعد إنجلترا وفرنسا القوتين العظميين فى العالم، بعد أن أنهت الولاياتالمتحدةالأمريكية الحرب العالمية الثانية، بتفجير قنبلتيها الذريتين، فى هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين، فى أغسطس 1945، وبعد أن نجح الاتحاد السوفيتى، من خلال الزوجين اليهوديين، جوليوس وإيثيل روزنبرج، فى الحصول على أسرار القنبلة الذرية، وإجراء تفجيره الذرى الأوّل، فى عام 1949، لتصبح الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويصبح الاتحاد السوفيتى، هما القوتان العظميان فى عالم ما بعد الحرب.. ولهذا أجرى الضباط الأحرار اتصالاتهم مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، التى تعهّدت لهم بضمان عدم تدخّل القوات البريطانية، فى حالة نجاح حركتهم..
ونجحت حركة الضباط الأحرار، ولم تتدخّل القوات البريطانية بالفعل، ودان لهم حكم البلاد والعباد.. وعلى الرغم من أن أحدا فى مجلس قيادة الضباط الأحرار، لم يشر من قريب أو بعيد، فى الأشهر الأولى للحركة، إلى إسرائيل أو قضية فلسطين، مع انشغالهم الشديد بكم هائل من المشكلات والتحديات الداخلية، فإن إسرائيل شعرت بخطر وقلق شديدين، ليس لأن من قادوا الحركة هم نفسهم من حاربوها عام 1948، ولا لأن البكباشى -حينذاك- جمال عبد الناصر كان أركان حرب الكتيبة، التى حاصروها فى الفالوجا، لكن مبعث قلقهم وشعورهم الشديد بالخطر، هو تلك العلاقة الطيبة، بين مصر والولاياتالمتحدةالأمريكية، التى صارت كفتى ميزان القوة فى العالم، وانعكاس هذا على حالة الهدوء النسبى، بين حركة يوليو وبريطانيا، التى على وشك الخروج من مصر، مما يجعل مصر بعدها حرة مستقلة، لا بد أن تلتفت إليها، عاجلا أو آجلا.. ولما كانت مصر تستعد للاحتفال بالعيد الثانى للحركة، فى يوليو 1954، والذى ظهر فيه لأوّل مرة مصطلح (ثورة يوليو)، قرّر الإسرائيليون القيام بعملية تخريب واسعة؛ لإفشال الثورة، وفصم العلاقة الطيّبة، بينها وبين الولاياتالمتحدة وبريطانيا.. ومن هنا بدأت عملية التخريب، التى عرفت كوديا باسم (عملية سوزانا).
وعملية (سوزانا)، واحدة من أشهر عمليات الجاسوسية، على المستوى المصرى والعالمى، وبالتأكيد على مستوى الصراع المصرى - الإسرائيلى، ولقد بدأت فى الخمسينيات، عقب حركة يوليو 1952، وعرفت عالميا باسم (فضيحة لافون)، نسبة إلى (بنحاس لافون)، وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق، الذى أصدر قراره ببدء العملية، من خلال المخابرات الحربية الإسرائيلية (أمان).
ولقد اعتمدت العملية على قيام مجموعة من الشباب اليهودى المدرَّب، بتخريب بعض المنشآت الأمريكية والبريطانية فى مصر فى ذلك الحين، خصوصا أن أحد أبرز سمات اليهود، بعد قيام دولة إسرائيل، هى أنهم، ومهما اختلفت جنسياتهم، أو اختلف منشأهم، ومهما علا شأنهم فى الدول التى يقيمون فيها، ومهما فازوا ونهلوا من خيراتها، يشعرون أنه من واجبهم أن ينتموا فقط إلى إسرائيل، باعتبارها الأم، والوطن المنتظر، لكل يهودى فى العالم، وأنها أرض الميعاد، كما تؤكّد توراتهم.. وفى ذلك الحين، كان (دافيد بن جوريون)، رئيس الوزراء الإسرائيلى ووزير دفاعها الأسبق، قد اعتزل العمل السياسى، وجاء بدلا منه (موشى شاريت) لرئاسة الوزراء، و(بنحاس لافون) لوزارة الدفاع، فى نفس الوقت الذى وجدت (إسرائيل) فيه نفسها فى موقف لا تحسد عليه، إذ صار الاتحاد السوفيتى دولة عظمى، غير مؤيِّدة لها، فى نفس الوقت الذى أدار فيه الرئيس الأمريكى (إيزنهاور) وجهه لها نسبيا، أملا فى فتح قنوات اتصال جديدة مع النظام المصرى بعد الحركة، وكان الفكر الإسرائيلى يتوقَّع صداما ثأريا، بينه وبين العرب، الذين لم تفارقهم مرارة هزيمة حرب 1948 بعد، وتولى الجيش السلطة فى مصر، يدق ناقوس الخطر حول هذا.
لذا فقد وضعت المخابرات العسكرية الإسرائيلية، المعروفة باسم (أمان)، خطة للتخريب والتجسَّس فى مصر، وبالذات لضرب المصالح الأمريكية فيها، حتى لا يزداد التقارب المصرى الأمريكى، على حساب ضعف العلاقة الإسرائيلية الأمريكية، وكانت الخطة تشتمل على الاعتداء على دور السينما، ومؤسسات الدولة العامة، وبعض المؤسسات الأمريكية والبريطانية، على أمل أن يفصم هذا العلاقة المصرية - الأمريكية الوليدة، ويدفع بريطانيا إلى إعادة النظر، فى فكرة إجلاء قواتها عن السويس.
وبناء على هذه الخطة، تم إنشاء ما يعرف بالوحدة (131) فى مصر، والتى ضمت مجموعة من شباب اليهود فى الإسكندرية، والعجيب أن أحدهم كان (جاك بيتون) موظف شركة التأمين الشاب، الذى هو فى واقعة (رفعت الجمَّال)، الذى ينتحل شخصية يهودية، لحساب السلطات المصرية، لكى يوجد فى أوساط اليهود، ويكون عينا عليهم.. ولقد كان المقدَّم (مودخاى بن تسور) مسؤولا عن إنشاء ومتابعة الوحدة (131)، التى اختار لقيادتها الرائد (إبراهام دار)، الذى سافر إلى مصر، ودخلها بجواز سفر زائف، كرجل أعمال بريطانى، تحت اسم (جون دارلنج)، ولقد تلقت الوحدة أوَّل أوامرها، كما كشفت التحقيقات فى ما بعد، عبر رسالة لاسلكية، تحدَّد أن الهدف الأكبر للعملية، هو الحيلولة دون التوَّصل إلى اتفاقية مصرية - بريطانية، بأى ثمن، وعن طريق توجيه ضربات متتالية للجبهة الداخلية المصرية، وحدَّدت الأوامر الأهداف المنشودة بالتالى: المراكز الثقافية والإعلامية، المؤسسات الاقتصادية، سيارات الدبلوماسيين البريطانيين، ورعايا بريطانيا، وأى هدف آخر، يمكن أن يؤدى تدميره إلى توتر العلاقات الدبلوماسية، بين مصر وبريطانيا، والبحث عن أهداف موجعة، فى منطقة القناة، وكانت الأوامر تصل عبر الإذاعة الإسرائيلية، فى السابعة من صباح كل يوم، وكانت إذاعة وصفة عمل (الكيك الإنجليزى)، هى الإشارة الكودية المتفق عليها، لبدء العملية.. وفى الأربعاء الثانى من يوليو 1954، بدأت العملية، بتفجير ثلاثة صناديق بريد، فى مبنى البريد الرئيسى فى الإسكندرية، وكانت الأضرار طفيفة غير مؤثرة، مما دعا الصحافة إلى تجاهل الأمر، على الرغم من العثور على عبوة مجهولة، داخل الصناديق الثلاثة.
ولقد توَّلى التحقيق فى هذا الصاغ (ممدوح سالم)، الذى صار رئيس وزراء مصر فى ما بعد، ثم مساعدا لرئيس الجمهورية، الذى كشفت له التحقيقات أن العبوات تحوى مزيجا من المواد الكيماوية، وقطعًا صغيرة من الفسفور الأحمر، ولم ينتبه أحد عندئذ إلى أن صناديق البريد كانت مجرَّد تجربة لهذا النوع منزلى الصنع من المتفجرات، حتى انفجرت قنبلة فى المركز الثقافى الأمريكى فى الإسكندرية، صباح الرابع عشر من يوليو، ثم فى المركز الثقافى الأمريكى فى القاهرة، فى مساء اليوم نفسه، وفى الحادثتين، ثم العثور على جراب لنظارة، يشبه ما تم العثور عليه فى حادثة تفجير صناديق البريد.. وفى الثالث والعشرين من يوليو، كانت الخطة تقضى بوضع متفجرات فى محطات القطارات، ومسرح (ريفولى) بالقاهرة، ودارى سينما (مترو) و(ريو)، إلا أن إحدى العبوّات اشتعلت، فى جيب أحد منفذى العملية، قبل موعدها لخلل غير مقصود فى تصنيعها وجمعها، وتم إنقاذه من قِبل المارة، وعلى الرغم من إصابته، فإنه تم اعتقاله من قبل ضابط شرطة نابه، ارتاب فى الأمر، ورأى ضرورة معرفة أسبابه.
وفى المستشفى، وجد الأطباء مسحوقا فضيا، يلطَّخ جسم الشاب، وتم العثور معه على جراب نظّارة، داخله مسحوق مشابه، لذلك الذى تسبّب فى التفجيرات السابقة، ورجَّح الأطباء أن يكون الاشتعال ناشئا عن تفاعل كيميائى، وبتفتيش الشاب، الذى يُدعى (فيليب ناتاسون)، غير المعروف الجنسية، الذى يبلغ من العمر -آنذاك- 21 عاما، تم العثور على جراب آخر، به قنبلة من النوع ذاته، ويحمل اسم (مارون آياك)، صاحب محل النظارات الشهير حينئذ، ومع التحقيقات المكثفة، انهار الشاب، واعترف بأنه عضو فى منظمة مسؤولة عن الحرائق، التى شهدتها البلاد مؤخّرا، مما أسهم فى استصدار قرار بسرعة تفتيش مسكنه.
وفى منزله، تم العثور على مصنع صغير للمفرقعات، ومواد كيميائية سريعة الاشتعال، وقنابل حارقة... وبناء على اعترافاته، سقط أفراد الشبكة تباعا، وهم (فيكتور موين ليفى)، مهندس زراعى، فى الحادية والعشرين من عمره، و(روبير نسيم داسا)، تاجر فى نفس العمر، ولقد ادعى كلاهما الوطنية، وأن هدفهما كان حب مصر، وإرسال رسالة إلى الإنجليز والأمريكيين، بأنهما سيخرجان منها بالقوة، لكنهما عجزا عن تبرير محاولة حرق مكتب البريد المصرى، كما جاء التقرير، الذى يفيد العثور على شرائح ميكروفيلم، فى منزل (فيليب ناتاسون)، ليحسم الأمر تماما، حيث لم يكن الحصول على الميكروفيلم متاحا، فى ذلك العصر، إلا لأجهزة المخابرات وحدها، مما أثبت أنهما لا يمتان للوطنية بصلة، وأنهما حتما جاسوسان، يعملان لحساب جهة، تسعى للتخريب وقتل أى محاولة لنهوض مصر، ومع مواجهتهما بهذا، اضطر الشابان إلى الاعتراف بالحقيقة.. وهكذا تساقط باقى أفراد العملية، واحدا بعد الآخر، وتم احتجاز عدد كبير من اليهود للتحقيق معهم، كان من بينهم، وفقا لترتيبات القدر (جاك بيتون) نفسه، والذى تم احتجازه فى زنزانة واحدة، مع (إيلى حوفى كوهين)، الذى ساعد (رفعت الجمَّال) على إسقاطه فى (سوريا) بعد بسنوات، عندما عاش هناك تحت اسم (كامل أمين ثابت)، وكاد يتوَّلى منصب وزير الدفاع السورى، بعد أن تم ترشيحه لمنصب نائب وزير الدفاع بالفعل، قبيل كشف أمره وسقوطه بقليل، أما فى مصر، فقد جاءت قائمة الاتهامات، فى قضية (سوزانا) كبيرة.
ووفقا للملفات الرسمية، فإنه عندما تم الإيقاع بأوائل المتهمين فى عملية الجاسوسية الكبرى، التى عرفت باسم (عملية سوزانا)، أو (فضيحة لافون)، كان من أهم الأدلة، التى تم العثور عليها، فى منزل (فيليب ناتاسون)، أحد المتهمين، شرائح ميكروفيلم دقيقة، لم يكن من الممكن توافرها، فى ذلك الحين، إلا لأجهزة المخابرات، ولقد تبيَّن فى ما بعد، أن تلك الشرائح قد دخلت إلى مصر عن طريق (باريس)، وبوسيلة كانت آنذاك مبتكرة للغاية، إذ تم لصقها خلف طوابع البريد، فى رسائل عادية، ولعناوين مختلفة.. وعندما تم تكبير تلك الشرائح، وجد الخبراء عليها سبع وثائق، عن تركيب واستعمال بعض القنابل البدائية الحارقة، وشفرة للاتصال اللا سلكى، وعددًا من الخرائط للأهداف المراد توجيه الضربات إليها، وأشياء أخرى، تنتمى كلها إلى منظومة التجسَّس.. ولقد قادت التحريات والاستجوابات إلى الإيقاع بعدة متهمين آخرين، مثل (صمويل باخور)، وهو مهندس يهودى، فى الرابعة والعشرين من عمره، أسس خلية الوحدة فى (الإسكندرية)، وتولَّى زعامتها مؤقتا، قبل أن يحتل (فيكتور ليفى) منصب الزعامة، لتفوقه خبرة وتدريبا، وعبر اعترافات (صمويل)، تم إلقاء القبض على (ماير موحاس)، اليهودى البولندى الأصل، الذى يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاما، ويعمل مندوبا للمبيعات، الذى أرشد فى اعترافاته إلى (جون دارلنج)، أو (إبراهام دار)، قائد الشبكة، ومؤسس فرعيها، فى القاهرة، و(الإسكندرية)، وأحد أخطر رجال المخابرات الإسرائيلية، وأكثرهم مهارة، كما أرشد عن (موسى ليتو)، الجرَّاح ومسؤول فرع القاهرة، الذى تم القبض عليه، ليرشد بدوره عن (فيكتورين نينو)، الشهير باسم (مارسيل نينو)، و(ماكس بينت)، و(إيلى جاكوب)، و(يوسف زعفران)، و(سيزار يوسف كوهين)، و(إيلى كوهين)، الذى لم يثبت تورّطه فى (عملية سوزانا)، وتم الإفراج عنه فى ما بعد، وإن ساعد ملفه فى هذه العملية، على كشف أمره فى ما بعد، عندما تم زرعه فى (سوريا)، تحت اسم (كامل أمين ثابت)، وألقى القبض عليه هناك، قبل أن يفوز بمنصب نائب وزير الدفاع مباشرة.
ولقد أعقب سقوط الشبكة فى مصر وما صحب ذلك من دوىّ إعلامى عالمى، أن أصدر (موشى ديان)، رئيس أركان الجيش الإسرائيلى فى ذلك الحين، قرارا بعزل (موردخاى بن تسور)، من قيادة الوحدة (131)، وتعيين (يوسى هارئيل)، بدلا منه، ومن الواضح أن اختياره لم يكن موفقا، إذ إن (يوسى هارئيل) قد اتخذ قرارا بالغ الغرابة والعجب، فى تاريخ المخابرات كله، إذ خشى تحمَّل المسؤولية، فأصدر قراره بإيقاف جميع عمليات التجسس، فى كل الدول العربية، واستدعاء جميع العملاء فيها، حتى لا يواجه مصيرا مشابها لمصير سلفه.. وهو إجراء لا يمكن أن يتخذه رجل مخابرات حقيقى، فى فترة شديدة السخونة كهذه.
وعلى جانب آخر فقد تمت محاكمة أفراد شبكة التجسَّس، التى استهدفت ضرب الجبهة الداخلية، وإفساد علاقات مصر الدولية، فى الحادى عشر من ديسمبر عام 1954، وصدر الحكم على (موسى ليتو مرزوق)، و(صمويل بخور عازرا)، بالإعدام شنقا، والأشغال الشاقة المؤبدة، لكل من (فيكتور ليفى)، و(فيليب هرمان ناتاسون)، والأشغال الشاقة لخمسة عشر عاما، لكل من (فيكتورين نينو)، و(روبير نسيم داسا)، والأشغال الشاقة لسبع سنوات، لكل من (ماير يوسف زعفران)، و(ماير صمويل ميوحاس) ومصادرة أجهزة اللا سلكى والأموال المضبوطة، وسيارة (ماكس بينيت)، الذى لم يرد اسمه فى منطوق الحكم، نظرا لانتحاره فى السجن.. أما (سيزار يوسف كوهين)، و(إيلى جاكوب)، فقد تمت تبرئتهما، ليخرجا بعدها من مصر، ويعاود (إيلى) نشاطه فى المخابرات الإسرائيلية، ثم يسقط فى (سوريا) بعدها بسنوات، وهو ينتحل شخصية (كامل أمين ثابت).. ولقد أصيب الشارع الإسرائيلى بحالة من الغضب والغليان، عقب صدور الأحكام، وبذلت (إسرائيل) جهودا مضنية، لإقناع مصر بالعدول عن الأحكام، لصغر سن المتهمين، وتدخل الرئيس الأمريكى -حينذاك- (أيزنهاور)، وأرسل رسالة شخصية إلى (جمال عبد الناصر)، يناشده الإفراج عن المتهمين لدوافع إنسانية، وكذلك فعل (أنتونى إيدن)، و(وينستون تشرشل)، وعدد من كبار المسؤولين الفرنسيين، إلا أن الرئيس (جمال) رفض كل هذا، وأصر على المضى فى تنفيذ الأحكام، باعتبار أن مصلحة مصر تفوق كل اعتبار.
وبالفعل، وفى 31 يناير 1955، تم تنفيذ حكم الإعدام فى (موسى ليتو مرزوق)، و(صمويل بخور عزرا)، حيث تم دفن الأوَّل فى مقابر اليهود بالبساتين، والثانى فى مقابر اليهود بالإسكندرية.. وعم الحزن (إسرائيل) كلها، حيث نكست أعلامها، ووقف أعضاء الكنيست حدادا، وخرجت كل الصحف الإسرائيلية بمانشيتات سوداء، وتم إطلاق اسم الجاسوسين على أهم شوارع (بئر سبع).
لكن الفضيحة لم تنته، وقد تم التحقيق مع (موشى شاريت)، رئيس الوزراء، والذى لم يكن لديه أى علم بالعملية، وكذلك التحقيق مع وزير الدفاع (بنحاس لافون)، الذى أنكر معرفته بأى عملية، تحمل اسم (سوزانا)، إلى أنه اضطر بعدها للاستقالة، وعاد (بن جوريون) إلى منصب وزير الدفاع، فأصدر قراره بعزل (بنيامين جيلبى)، مدير المخابرات العسكرية (أمان)، وتعيين (يهو شفاط هركابى) بدلا منه.. و(هركابى) هذا، والذى كان نائبا لمدير المخابرات العسكرية، هو صاحب نظرية الردع العسكرى، التى تم تطبيقها فى السياسة العسكرية الإسرائيلية فى ما بعد.
أما باقى المتهمين، فقد تم عقد صفقة تبادل أسرى، عقب نكسة يونيو 1967، وتم الإفراج عنهم فى بدايات عام 1968، ليعودوا إلى (إسرائيل)، التى تم استقبالهم فيها استقبال الأبطال، واستقبلتهم رئيسة الوزراء -آنذاك- (جولدا مائير)، وصدر قرار بتعيينهم فى الجيش الإسرائيلى، كوسيلة لمنعهم من ذكر تفاصيل القضية، وحضرت (جولدا مائير) مع (موشى ديان)، وزير الدفاع الإسرائيلى -آنذاك- حفل زفاف (مارسيل نينو)، وإن لم يمنع هذا ظهور هذه الأخيرة، مع (روبير داسا)، و(يوسف زعفران)، على شاشة التليفزيون الإسرائيلى، بعد عشرين عاما من العملية، فى يوليو 1974، ليهاجموا الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لأنها لم تبذل الجهد الكافى لإطلاق سراحهم قبل هذا، وأنه لولا عملية تبادل الأسرى، لما عادوا إلى (إسرائيل).. وعلى الرغم من مرور ما يقرب من نصف قرن على آخر ظهور إعلامى لجواسيس العملية، فإن الفضيحة ما زال صداها يدوى فى إسرائيل، وما زال يثبت أنه، ومهما قال أو فعل اليهود، ففى أعماقهم لا يؤمنون إلا بصالح إسرائيل وحدها، حتى ولو خرّبوا العالم كله، بألف عملية سوزانا جديدة ... ومميتة.