لم يكن كل هذا النجاح الذي حققته هذه الرواية أمراً من قبيل المصادفة؛ هذا النجاح الذي لم يكن يتوقعه أحد عندما نشرت هذه الرواية لأول مرة عام 1988، ولم تحقق أي نجاح، ولم توزع أكثر من 900 نسخة؛ حتى أن الناشر البرازيلي قرر ألا يعيد طباعتها مرة أخرى... ويُكتب لها الظهور مرة أخرى عندما تبنّى الرواية ناشر آخر، وقرر أن يعيد نشرها بعد عامين، ومنذ هذا الوقت؛ وهذه الرواية تتصدر كل الكتب البرازيلية المبيعة في حينها وحتى الآن؛ حيث إنها ترجمت إلى 67 لغة؛ مما جعلها تدخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية لأكثر كِتَاب مترجم لمؤلف على قيد الحياة، كما بيع منها 65 مليون نسخة في أكثر من 150 بلداً؛ مما جعلها من أكثر الكتب البرازيلية مبيعاً على مر التاريخ. السيميائي رواية عبقرية لا تتجاوز ال181 صفحة؛ ولكنها تبحر بتعمق شديد في النفس البشرية الحالمة بأهدافها والمواجهة لطموحاتها بعيدة المنال؛ ولكنها ليست مستحيلة، تكمن عبقرية هذه الرواية في البساطة والحكمة والعمق في آنٍ واحد. تدور أحداث الرواية حول "سانتياجو" راعي الأغنام الأسباني، الذي يذهب في رحلة للبحث عن تحقيق حلمه بالعثور على الكنز المدفون قرب أهرامات الجيزة في مصر، وتمضي معك الرواية داخل هذه الرحلة المليئة بالعبر والمواقف الرمزية الإنسانية لكل من يطمح في تحقيق هدف ما في حياته، ويبقى البطل حائراً أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن يظل كما هو في حياته العادية -بعيداً عن الهدف- من استقرار في بلده والرضا بعمله، والعالم الذي تعوّد عليه بدون مغامرة في رحلة غير مضمونة النتائج، وإما أن يخوض التجربة ويمضي في طريق تحقيق ذاته، يشدّ الرحال، ويخرق جدران الليالي والأيام ليبحث بحثاً حثيثاً على كنزه وحلمه وهدفه الذي يوازي البحث عن الذات وتحقيقها من خلال ما أسماه الكاتب ب"الأسطورة الذاتية". و"الأسطورة الذاتية" ما هي إلا هدف الإنسان من حياته الذي يدركه عادةً في مرحلة الشباب، وتقوم قوى غامضة بمحاولة صرفه عن تحقيق هذا الهدف من خلال عقبات كثيرة تحول بينه وبين حلمه؛ ولكن إذا ما استطاع الإنسان أن يلتزم بطريق تحقيق هذا الحلم بحقّ وجدّيّة؛ فإن العالم بأسره يتآمر معه لكي يحقق له هذا الهدف طالما استطاع أن يقهر هذه العقبات بشجاعة وإصرار على النجاح. ومن خلال هذه الرحلة يعلّمنا الكاتب بحكمة وهدوء كيف يستطيع كل منا أن يهزم هذه العقبات، وكيف يمكن أن تتآمر الحياة لصالحنا وتساعدنا في تحقيق أحلامنا، وكيف ننظر إلى الأشياء والتفاصيل البسيطة جداً -التي تحدث في حياتنا كل دقيقة وكل ساعة- بنظرة متعمقة ومستوعبة أكثر لما وراء هذه التفصيلات التي تبدو بسيطة، وهي في منتهى العمق والحكمة، وما رحلة "سانتياجو" في البحث عن ذاته؛ إلا رحلة تعليمية شيّقة وممتعة للقارئ؛ فلا تخلو صفحة -بل لا يخلو سطر واحد- من حكمة ودروس جديدة بسيطة وقوية ومفيدة لكل إنسان في كل زمان أو مكان. كتب هذه الرواية الروائي البرازيلي "باولو كويليو" هذا الرجل الذي يحترف العزف على أوتار النفوس، ولعله حاول من خلال هذه الرواية أن يجسد لنا -عبر الكلمات- رحلته الذاتية نحو هذا النجاح الكبير ككاتب؛ حيث يقول في أحد اللقاءات الصحفية: "إن رواية السيميائي هي استعارة من حياتي. لقد كتبتها عام 1988، في هذا الوقت كنت سعيداً بالأشياء التي كنت أعملها. كنت أعمل شيئاً يعطيني الطعام والماء. وكما الاستعارة في كتابي: كنت أشتغل وكان لديّ الشخص الذي أحب، وكان لدي المال؛ ولكني لم أحقق حلمي؛ حلمي الذي كان، ولا يزال، بأن أصبح كاتباً". ومما يزيد الرواية جمالاً على جمال، هو أن من قام بترجمتها للغة العربية هو الكاتب والروائي المصري الكبير بهاء طاهر، الذي قال في مقدمة الطبعة الأولى للرواية المترجمة -والتي أسماها "ساحر الصحراء"- الصادرة عن دار الهلال سنة 1996: وكلمة الكنز هي المدخل الصحيح لرواية "السيميائي"؛ فهي باختصار شديد رحلة أخرى من رحلات البحث عن الكنوز التي قرأناها في الروايات وشاهدناها على الشاشة، مع شيء من الاختلاف؛ فالبحث عن الكنز هذه المرة ليس مغامرة إثارة نتابع فيها الأحداث المشوقة، بحيث نتطلع في لهفة إلى ما تحمله لنا الصفحات التالية من مفاجآت؛ هذه المرة نحن في رحلة بحث عن كنز حقيقي قيل إنه مخبوء في الصحراء بالقرب من أهرام الجيزة ذاتها؛ ولكن الرحلة التي تقود الشاب الباحث عن الكنز من الأندلس عبر الصحراء هي رحلة في داخل النفس أولاً قبل أن تكون في دروب الصحراء، نحن باختصار أمام رواية فلسفية مثل "حي بن يقظان" لابن طفيل أو "الأمير الصغير"، ومثلهما هي أيضاً مبذولة للجميع؛ للكبار وللصغار على حد السواء؛ فللكل أن يستمتع بها في ذاتها، وللكل أن يستشف من طبقات المعنى فيها ما يستطيع". ومن العجيب أنه قبل نشر رواية "السيميائي" بثلاث سنوات نشر الأستاذ بهاء طاهر رواية له بعنوان "أنا الملك جئت" لم تترجم إلى أي لغة، وهي أيضاً رحلة بحث عن الذات في الصحراء، ويتساءل الأستاذ بهاء في آخر سطور المقدمة التي كتبها عن "السيميائي": كيف اتفق أن توجد -دون معرفة ولا لقاء- مواقف متطابقة في العملين، وفي بعض الأحيان نفس العبارات؟.. سؤال أطرحه على روح العالم!.