تعالوا نفترض أن مليون شاب قد تبرعوا بدمهم دفعة واحدة، وأن بنوك الدم أصبحت مكتفية، فهل تعتقدون أن المشكلة قد انتهت حينئذ.. الواقع أن الجواب هو لا وألف لا، فالمشكلة ليست في التبرُّع بالدم فحسب، ولكن في إساءة استخدام الدم في نفس الوقت، فالأطباء أنفسهم بحاجة إلى حملة توعية، لترشيد استهلاك الدم؛ إذ إنهم يستخدمونه "عمال على بطال" كده بالبلدي، فأحياناً يمنحونه بمجرد أن ينتعش المريض، أو لمجرَّد أنه قد خرج من عملية جراحية، بغض النظر عن احتياجه له أو لا، أو بناءً على رأي أهل المريض، أو حتى للحصول على نتائج سريعة، أو على مقابل لثمن الدم، في بعض المستشفيات الخاصة (يجعل كلامنا خفيف عليهم).. وقبل أن نشرح للعامة كم هي ثمينة قطرة الدم، لا بد وأن نشرح للأطباء هذا، على الرغم من أنهم يعرفونه جيداً، ويعرفون أيضاً أنه ما من نقل دم آمن بنسبة مائة في المائة، وأن هناك دوماً مخاطر تكمن في عملية نقل الدم، أياً من الإهمال أو التعجُّل في فحص دم المتبرِّع، أو في عوامل لم يتم كشفها بعد، قد تسبِّب أضراراً مستقبلية، أو حتى في تفاعل جسم المريض، مع دم من شخص آخر.. ولو أننا سنحث الناس على مد بنوك الدم بدمائهم، فالأجدى أن نحث الأطباء على جعل ترشيد الاستهلاك هدفاً لهم، فالمريض الذي يحتاج إلى لتر من الدم، يمكنه تعويض هذا اللتر بغذاء، ورعاية صحية مناسبة، ليتوفر هذا اللتر لمريض آخر، لا يمكن أن يحيا بدونه.. وكل قطرة تتوفر من شخص يمكنه تعويضها ذاتياً، قد تعني حياة طفل بريء، شاء قدره أن يصاب بمرض من أمراض الدم، في نفس الوقت الذي يلهو فيه رفاقه ويلعبون، ويصابون، وتنزف دماؤهم لتختلط بتراب الأرض.. الله سبحانه وتعالى خلق الناس أمة واحدة، حتى يتآزروا، ويشد بعضهم بعض، ويعطي كل من عنده فضل زاد من لا زاد له، فهبوا لعطاء من لديه نعمة الصحة لمن حرم منها، وامنحوه قطرة واحدة... قطرة دم.. والآن دعني أسألك سؤالاً هاماً جداً، بعد كل ما قرأته: لماذا لا يقبل الناس في مصر على التبرع بالدم، في الأيام العادية، أو بشكل دوري، أو حتى باعتبار أن تبرعهم هذا صدقة عن صحتهم وأنفسهم، على الرغم من أنهم هم أنفسهم (وليس غيرهم) يبادرون طواعية بالتبرع بدمائهم (نفسها)، إذا ما حلت كارثة، أو اندلعت حرب، أو وقع حدث جلل؟!... المصريون أنفسهم، الذين لا يبالون بفكرة التبرع الدوري بالدم، ولو مرة كل ستة أشهر، هم الذين وقفوا في طوابير، للتبَّرع بدمائهم لمصابي حوادث القطارات، وضحايا الاعتداء الإسرائيلي على غزة وغيرهم... فأين تكمن المشكلة إذن؟!... الواقع أن المشكلة الفعلية تكمن في انعدام الثقة... انعدام ثقة المواطن في مصداقية حملات التبرَّع بالدم... وعدم ثقة المواطن في نظافة وصحة الأجهزة التي تستخدم في التبرع بالدم... وعدم ثقة المواطن (وهذا هو الأهم) في النظام الحاكم ككل... وانعدام الثقة هذا لم يأت من فراغ، فالإعلام لدينا فاشل، يحيا في غيبوبة "سِتِّيناتِيَّة"، ويصر في حماقة وسذاجة، على إثبات أنه إعلام الملك، وليس إعلام الشعب، لذا، فما من شيء يقوله سيبدو لمصلحة الشعب، وإنما سيرى الناس أن هذا الإعلام "العبيط" يحاول إفادة الملك والعائلة المالكة ونظام الحكم الفاسد، ولو على حساب الشعب كله، وبالتالي تفشل حملاته، هذا لو قام بها من أجل التبرع بالدم، دون أن يطلب مقابلاً عبيطاً مثله، يجعل استيراد الدم من المريخ أقل تكلفة؛ لأنه لا يؤمن حقاً بأهمية وخطورة الأمر، بل بضرورة وحتمية أن يقنع الملك بأنه جدع وكسيب وواد عترة.... ثم أن هذا الإعلام نفسه، هو من اندفع في شراهة غير محسوبة؛ لإثبات فساد أكياس الدم، ووسائل نقل الدم، ليحقق ضجة محدودة، وتأثيراً مرعباً دائماً، في قلوب جميع المصريين، باختلاف فئاتهم.... الأهم من كل هذا، هو أن نظام التعامل مع الدم في مصر هو نظام فاشل، بكل المقاييس المعروفة، والقائمين عليه مثل القائمين على كل شيء في بلادنا، يعشقون النظريات، والشعارات، والأرقام الشيك، والمقارنات بسويسرا وسنينها، وأوروبا وحضارتها، وبلاد واق الواق، ويغرقون في أوراق رسمية، واجتماعات شيك، دون أن يفكروا لحظة في النزول إلى أرض الواقع... المسئولون عن التبرع بالدم في مصر، بدءاً من وزارة الصحة، حتى المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية، يعيشون حلماً رومانسياً، لا يرتبط من قريب أو بعيد بأرض الواقع الفعلي، ويطيرون في سماء المثالية واليوتوبيا، دون أن يكلفوا خاطرهم بالهبوط منها إلى قلب المجتمع، وخوض ومتابعة ما يحدث في قلبه، فكلهم بلا استثناء يطالبون المواطنين بالتبرع بالدم على نحو دوري، ويرفضون في شدة أن يحصل المتبرع، أياً كان ما يقدمه، على أية فوائد تذكر، مهما كانت، باعتبار أنه من الضروري أن يكون عمله تطوعياً بحتاً، لوجه الله والوطن فقط، دون سواهما... وهذا نظرياً، وعلى الورق، وفي أحلام اليقظة أمر رائع، ومثير، وتقال فيه آلاف العبارات الحماسية الرنانة البراقة، ذات الإيقاع الساخن المثير، وهم يطالبون المواطنين بالاقتناع بهذه النظرية، في نفس الوقت الذي يدوخ فيه المواطن السبع دوخات، من أقصى مصر إلى أقصاها، إذا ما احتاج إلى قطرة دم، أي أنني أطالبه بأن يعطي ما لديه بلا مقابل، باعتبار أننا جميعاً في سفينة واحدة، فإذا ما سقط من السفينة، لأي سبب كان، فهو مسئول عن نفسه، عليه أن يبحث عن وسيلة للنجاة، أو يشتري طوق نجاة بكل ما لديه!!. أنا أؤيد بشدة فكرة أن يقبل الشباب على التبرع بالدم دون مقابل، ليس لأن هذه صدقة جارية، ولا لأن كل قطرة دم تنقذ مصاباً، أو تشفي مريضاً، هي عطاء يحسب لصاحبه يوم القيامة، وثواب يملأ نفسه بالارتياح والشعور بالعطاء، ولكن أيضاً لأن التبرع الدوري بالدم يعمل على تنشيط نخاع العظام، وتجديد حيوية خلايا الجسم وأجهزته، ويحافظ على قوة الشباب، وتألقه ولونه وفاعليته، وأدعو كل شاب في مصر إلى التبرع بدمه مرة كل ستة أشهر، بل وأدعو هنا إلى مبادرة بدعوة مليون شاب مصري للتبرع بدمائهم ؛ لإثبات أنهم أكبر طاقة محركة في مصر، وأنهم قادرون على فعل المستحيل، إذا ما أرادوا هذا واقتنعوا به، ولكنني في الوقت ذاته أطالب كل مسئول عن الدم في مصر أن يكون واقعياً، وأن يترك نظرياته، وأفكاره "الفوق رومانسية"، وينزل إلى أرض الواقع، إذا ما أراد، أو كانت في نيته فعلاً حل مشكلة نقص الدم في مصر، وليس ملء الأوراق الرسمية فحسب، وحضور المؤتمرات (الشيك)، ثم إنني أطالبه بالنظر الفعلي إلى المريض... وهذه قصة أخرى.. فالجهات المعنية بمشكلة الدم في مصر، باستثناء الجمعيات الأهلية غير الحكومية، لم ترتب أولوياتها على نحو سليم، حتى هذه اللحظة، فالمرضى في مصر يعانون مشكلة يومية، في الحصول على ما يحتاجون إليه من دم، بعضهم على نحو مؤقت، وبعضهم بصفة دورية، مثل بعض الأطفال المصابين بأمراض الدم، والذين تذوي براءتهم على نحو تتمزق له القلوب، لاحتياجهم إلى شريان الحياة، والذين لو ألقيت نظرة واحدة علهم، لما ترددت لحظة في منحهم دمك، كلما استطعت هذا، وعلى الرغم من هذا، فالمسئولون في مصر يسعون للكمال المستحيل، ويضربون لنا أمثلة مستفزة، عن ثقافة التبرَّع بالدم في سويسرا وكندا وبلاد تركب الأفيال، وكأنهم لا يعيشون هنا في مصر، ولا حتى هناك، في البلاد التي يضربون بها الأمثال، بل في عالم الخيال، ولا توجد مشكلة في الحلم، ولكن المشكلة في أن يعزلك العلم عن الواقع، وينتزعك من عالم الحقيقة، فبالنسبة للمريض، لا توجد أحلام أو رومانسية، فهو والمصاب يوجد فقط دم، أو لا يوجد، وكلاهما لن ينتظر سنوات، حتى تنصلح المنظومة كلها، ويتحوَّل الشعب المصري إلى الجنسية السويسرية، وتنتشر فيه ثقافة التبرع بالدم، حتى يحصل هو على ما يحتاج إليه، وهو وفقاً لأحلام المسئولين الرومانسية لن يحصل عليها أبداً، ولا حتى ورثته سيحصلون عليها، فكما قال الزميل الأديب والصحفي محمد فتحي، فنشر ثقافة التبَّرع بالدم يحتاج إلى تسويق، مثله مثل أي ترويج في العالم، ويحتاج إلى مراحل تمهيدية؛ لأن مثله مثل أي أمر آخر، لن يقفز إلى أعلى في قفزة واحدة، ولا يحتاج إلى التضحية بآلاف المرضى والمصابين، حتى يتحقق هدف المثالية الأعظم... الأمر يحتاج إلى السير في خطين متوازيين في وقت واحد، أوَّلهما وأهمهما هو نشر ثقافة التبرع التطوعي الدوري للدم، بين شباب مصر بالتحديد؛ باعتبارهم أمل المستقبل، وثانيهما إيجاد وسائل ترغيبية للحصول على الدم اللازم الآمن المطلوب، في المراحل الإعدادية للهدف الأول... والواقع أن تحقيق الهدفين بالتوازي، يحتاج إلى مرونة تتوافق مع أرض الواقع، وإلى فكر غير متعنت وغير متزمت، وهذا لن يتواجد حتماً في أية جهات رسمية محدودة الفكر، بل إلى أمل مصر في أن يتوافر لديها ما تحتاج إليه من دم... إلى الجمعيات الأهلية... فشباب الجمعيات الأهلية -على خلاف الرسميين- يعيشون مع الشعب والمرضى على أرض الواقع... يرونهم ويتفاعلون معهم، ويشاهدون معاناتهم وجهاً لوجه، ويعيشون الواقع، وليس حلم المثالية "العبيطة"، التي فشلت لأكثر من أربعين عاماً في علاج مشكلة تنظيم الأسرة... وفي ختام هذه المقالات، عن ضرورة التبرٌع بالدم رسالة.... رسالة أوجهها إلى كل مواطن في مصر، وكل شاب على الأخص، على أرضها... مصر (وليس النظام الحاكم ) تحتاج إلى دمك... إلى قليل منه... تحتاج إليه لتسعف مريضاً، أو تداوي مصاباً، أو تساعد طفلاً بريئاً على الاستمرار في الحياة... والتبَّرع بالدم سيفيدك أنت، قبل أن يفيد سواك، وخاصة إذا ما تبرعَّت به على نحو دوري، فلكي يتجدد دمك، سينشط نخاع عظامك، وستنشط خلاياك، وتتجدد، وينتعش جسدك وعقلك، وإذا ما كان تبرعك طواعية، فستنتعش نفسيتك أيضاً، وسيملؤك شعور بالعطاء، وبأنك صاحب يد عليا، وهو شعور لو تعلم عظيم.... أما قصة أنك تتبرع مجاناً، ثم تشتري الدم بالنقود، فهي تكمن في أن أي شخص، حتى أنت نفسك عندما يحتاج إلى الدم، فهو لا يحتاج إلى مجرَّد دم، بل إلى دم آمن، وكلمة آمن هذه تعني فحوصا، وتحاليل، ومعامل، ومستلزمات، ومواد، وتكلفة مالية عالية، وهذا أكثر أماناً لك قبل غيرك؛ لأنه لا أحد يعلم متى يمكن أن يحتاج إلى الدم، فإذا ما أعطاه الآن، وساهم في ارتفاع نسبة مخزون الدم في مصر، فسيجده في يسر عندما يحتاج إليه، وأرجوك ألا تقول لي إن هذا لن يحدث؛ لأنه هناك بلاد أقل منا فعلته، فنسبة المتبرعين عندنا في مصر تساوي واحداً في المائة من عدد السكان، مما لا يغطي أكثر من ثلاثين في المائة بالكاد، من احتياجات الدم في مصر، بفرض عدم حدوث كوارث كبيرة، أو حوادث فظيعة، أما في أوغندا مثلاً، فلقد نجحوا في تغطية مائة في المائة من احتياجاتهم من الدم، ولست أظننا أقل حضارة منهم، ولا حتى أقل عطاءً، أما عن أدوات نقل الدم، فهي حتماً آمنة، ومعقمة، وسليمة، ولا وجه للخوف منها إطلاقاً.... ثانية... كل مريض ومصاب في مصر يحتاج إلى قليل من دمك... كل طفل بريء يسري المرض في عروقه، ويلتهم دماءه، يحتاج إلى قليل من دمك... وكل قطرة ستمنحها لمن ينشدها هي خير... ومن عمل مثقال ذرة خيراً يره.. ومرة أخرى وأخيرة، لقد دخل الجنة من سقى كلباً، فما بالك بمن أعطى للبشر دماً؟!