كثيرا ما يتهم البعض وسائل الإعلام المختلفة بالكذب، ومحاولتها الانحياز لأطراف بعينها في أزمة يمر بها الوطن، مع التركيز وتسليط الضوء على بعض العيوب أو الإنجازات المتعلقة بطرف ما، وتجاهل الطرف الآخر أو باقي الفصائل السياسية الأخرى، إن وجدت! وكنت قد كتبت من قبل عن تأثير وسائل الإعلام على جمهور المتلقين، في مقال سابق بعنوان "هل الإعلام حقا مسئول عن تأجيج العنف في أحداث الكاتدرائية؟!"، وكيف أن العلماء والباحثين خلصوا إلى أن تأثير الإعلام ليس بالهيّن على سلوك البشر على المدى الطويل، وإن كان ليس عظيما كما يتخيل البعض، كما أن ذلك التأثير غير مباشر ويختلف من شخص إلى آخر تبعا لعوامل عديدة، منها التربية والتعليم وأنشطة التواصل الاجتماعية المختلفة بين مجموعات الأفراد، وغيرها. ولكن السؤال الأهم، كيف نتقي شر وسائل الإعلام من الأساس؟ أو كيف "نتحصّن" إذا جاز التعبير ضد الأخبار "الكاذبة" التي تحاول بعض وسائل الإعلام المختلفة أن تنقلها إلينا، وكيف نعرف الغث من السمين من هذه الأخبار؟ هذا هو موضوع مقال اليوم الذي أحاول أن أجاوب فيه على الأسئلة السابقة في السطور التالية.. أولا وقبل أي شيء آخر، يجب علينا أن ننظر إلى كل الأخبار والتقارير المختلفة على أنها موضع شك، وتحتاج منا أن نتأكد من صحتها، بغض الطرف عن مدى مصداقية وسيلة الإعلام التي تنقل هذا الخبر من عدمه! ولكن.. كيف نتأكد من صحة تلك الأخبار؟ الإجابة على هذا السؤال تأخذنا إلى سؤال آخر: ممَ يتكون الخبر الصحفي؟ الخبر الصحفي ببساطة مثل الحكاية لها بداية ونهاية وحبكة درامية وغير ذلك. إذا ما قرأت خبرا صحفيا ووجدت نفسك تتساءل كيف حدث ذلك؟ أو متى حدث؟ ولماذا حدث؟ وأين حدث؟ و من فعل هذا؟ ولم تجد في متن الخبر ما يجيبك على أسئلتك، فاعلم أن هناك شيئا ما خطأ في هذا الخبر! وليس بالضرورة عدم تصديق الخبر بالكامل بسبب فقدان هذه العناصر السابقة، فقد ينسى الصحفي من جرّاء الضغط اليومي والعمل المتواصل إدراج عنصر من العناصر السابقة، ولكنها دون شك ضرورية لفهم الحكاية التي يحاول الخبر أن يحكيها لنا! العمود الفقري للخبر هو المصدر، والمصدر ببساطة يتمثل في الدليل الذي نعتمد عليه في تأكيد أو نفي معلومة ما، وقد يكون المصدر شخص ما، مثل عندما نتناول خبرا يتعلق بهبوط حاد في البورصة المصرية ونجد في الخبر فقرة تؤكد هبوط مؤشرات البورصة المصرية على لسان رئيس البورصة أو أحد المسئولين أو الخبراء الاقتصاديين أو الأشخاص العاديين الذين يضاربون في البورصة، وجميعهم مصادر. إذا لم تجد الخبر فيه أي مصدر سواء كان شخصا أو بيانا صحفيا أو دراسة أو كتابا أو مقابلة صحفية أو الإشارة إلى مقال آخر، أو تسجيل صوتي أو مقطع فيديو أو وكالة أنباء أو غيرها من الأدلة، فاعلم أن ذلك الخبر موضع شك ولا يجب أن تصدقه تماما. أحيانا ما يكون الخبر بإحدى وسائل الإعلام قد نقل عن مصدر لجريدة أخرى أو وكالة أنباء أو مقطع فيديو أو أرشيف من على الإنترنت أو غيره، هنا يجب أن نبحث جيدا ونتتبع أصل الخبر ونقرؤه جيدا من المصدر الأصلي حتى نتأكد من أن الخبر لم يتم تحريفه، وهذا يحدث كثيرا لا سيما إذا ما كان المصدر الأصلي بلغة أخرى غير اللغة الأم، وقد تكون الترجمة مخالفة نسبيا للأصل، كأن يكون هناك خبر عن جريدة نيويورك تايمز مثلا على لسان أوباما، يقول فيه إنه قد يقوم بتسليح المعارضة السورية، في حين أن الخبر الذي قرأته مترجما يتحدث عن أن أوباما يسلح المعارضة السورية ويتناسى "قد" عن عمد أو سهو، الأمر الذي يشكّل بلبلة كبرى!
صورة الأهرام التعبيرية مثال حي على تحريف الصور! مثلما هناك مصادر صحفية موثوق فيها بدرجة كبيرة شأن مؤسسات عريقة تحاول قدر الإمكان ألا تخسر مصداقيتها لدى جمهورها، هناك مصادر صحفية أخرى مجهولة تحاول أن تجذب القرّاء إليها بشتى الصور، حتى وإن اضطرت إلى الكذب والتحايل، لذا إذا وجدت عزيزي القارئ خبرا ما لهذه المصادر الصحفية "المشبوهة" والمعروف عنها انحيازها الأعمى، يجب البحث الجيد عن الخبر نفسه بالمصادر الموثوق فيها، فإذا لم تجد هذا الخبر إلا عند هذه المصادر الصحفية "المشبوهة" فقط، فيمكنك عندئذ ألا تصدق الخبر تماما، لأنه غالبا إذا كان خبرا صحيحا ومهما ستجد العديد من المصادر الأخرى الموثوق فيها قد ذكرته، ولو عابرا! لا تقرأ عزيزي القارئ عنوان الخبر فقط دون باقي الخبر، لأنه أحيانا ما يعتمد المحرر على عنصر الجذب والتشويق لإغراء القارئ على الدخول وقراءة الخبر، بطريقة تجعل العنوان يختلف مع نص الخبر، أو لأن مساحة العنوان لا يجب أن تكون كبيرة فيتم قطع أو حذف مقطع مهم من العنوان قد يؤثر على طريقة فهم القارئ للخبر. إذا قرأت الخبر من الألف إلى الياء وشعرت أنه متحامل على طرف ما أو فصيل سياسي ما، لا سيما عندما تكون هناك وجهتي نظر مختلفة لحدث ما، ويتغافل المحرر عن إحدى وجهات النظر مع ذكر وجهة النظر الأخرى فقط. أو أن هناك وجهتي النظر بالفعل في الخبر ولكن إحداهما تطغى بشكل كبير على الأخرى، فاعلم أن المحرر لم يتسم بالحيادية المطلوبة في عرض الرأي والرأي الآخر. مثال تخيلي: أحد السياسيين المعروف انتماؤه إلى جماعة الإخوان المسلمين قد تعرّض للضرب على يد مجموعة من الأشخاص في تظاهرة ما، وكان مصدر الخبر ذلك السياسي المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين الذي يتهم فيه أنصار تيار سياسي بعينه بضربه، وليكن أنصار حزب الدستور، فإذا اكتفى الخبر بمصدر وحيد وهو ذلك السياسي الذي يتهم أنصار حزب الدستور، فهنا نجد أن المحرر عرض وجهة نظر أحادية للموضوع. أما المحرر أو الخبر الذي يعرض وجهة نظر السياسي المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين بالإضافة إلى وجهة نظر حزب الدستور من خلال بعض أنصاره وقادته، هنا يكون التوازن ويترك للقارئ تصديق وجهة النظر التي يريدها بمحض إرادته.
سقوط تمثال الرئيس العراقي ما هو إلا تمثيلية مسرحية المقولة الدارجة التي تفيد بأن الصورة خير من ألف كلمة يبدو أنها فقدت مصداقيتها في زمن الفوتوشوب والبرامج المتخصصة في تحريف الصور، وخير دليل على ذلك صورة الأهرام "التعبيرية" الشهيرة التي وجدنا فيها الرئيس السابق حسني مبارك يتقدم زعماء العالم أثناء انعقاد قمة ما لزعماء الدول بشرم الشيخ، رغم أن أصل الصورة أظهرت أن الرئيس السابق حسني مبارك كان في المؤخرة ولكن الأهرام وجدت أن ذلك غير ملائم، فحرّفت في الصورة! أيضا هناك صورة سقوط تمثال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والذي أفاد شهود عيان بأن تلك الصورة كانت وفقا لتمثيلية مسرحية، أخرجها الجنود الأمريكيون كما أن "الزووم" أو تكبير الصورة أوحى بأن مئات أو الآلاف من العراقيين حاولوا إسقاط التمثال لكن في الحقيقة أنهم حفنة مكوّنة من العشرات! كل هذا وأكثر يجعلنا نشك في كل الصور الملتقطة مع الخبر أو ملابسات تصوير هذه الصورة! يجب على القارئ أو المشاهد أو المستمع ألا يثق ثقة عمياء في أي وسيلة إعلام بوصفها لا تخطئ أو تتميز بالحيادية والمصداقية المطلقة، لأن كل وسيلة إعلام مهما بلغت درجة مصداقيتها وحياديتها تحمل بين طياتها أجندة ما أو تحكمها اعتبارات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ما. مثال: قد يرى البعض أن هيئة الإذاعة البريطانية BBC مثال للنزاهة والحيادية والموضوعية والمصداقية إلى آخره من الصفات الحميدة، ولكن هذا لا يعني أنها قد تنحاز لاعتبارات عديدة، وقد لا يلاحظ القارئ أو المستمع أو المشاهد العادي نمط الانحياز هذا. مثال: قد لا يعرف القارئ العادي أن إذاعة الBBC باللغة العربية قد مدّت ساعات إرسالها إبان حرب الأيام الستة أو أيام نكسة 1967 من 10 ساعات إلى 17 ساعة يوميا، رغم افتقارها آنذاك للقدرة المالية وطاقم العمال، كما أنها عادت مرة أخرى لساعات البث العادية بعد انتهاء الحرب! أيضا رفضت الBBC أن تدير حملة استغاثة خيرية لقطاع غزة عقب الغزو الإسرائيلي للقطاع في عام 2008، الأمر الذي جعلها تنال سهام نقد عديدة بوصفها مناصرة لإسرائيل. وإذا دققنا وراء كل وسيلة إعلام، سنجدها بشكل أو بآخر تنحاز أو تتسم بعدم الموضوعية والمصداقية، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة. لذا، نصيحة مهمة: لا يجب "تقديس" أي وسيلة إعلام! قد تعتمد وسيلة الإعلام على اللعب على مفهوم "الثنائيات المتناقضة"، من خلال إظهار فصيل ما أو جماعة ما أو أي طرف ما على أنهم "الأخيار" أو "الضحايا" أو "المهمّشين" أو غيرها من الصفات الإيجابية، في حين يتم إظهار طرف آخر بالنقيض تماما على أنهم "الأشرار" أو "المعتدون" أو غير ذلك من الصفات السلبية. ويحدث ذلك كثيرا أيام التظاهرات عندما يتم تسليط الضوء على من بدأ بالهجوم أولا ومن الذي يبدو العنف الذي يولده ردا للفعل، أي من الجاني ومن الضحية، وذلك بغرض تبرير سلوك ما أو رد فعل ما تجاه الفصيل الآخر. لذا يجب على القارئ أو المستمع أو المشاهد ألا ينخدع بمثل هذه الأمور. ويسهل ملاحظة ذلك من خلال استخدام الخبر لكلمات أو أفعال أو صفات سلبية وأخرى إيجابية، أو ضمائر مثل "نحن" و"هم"، مما قد يجعلنا نتعاطف مع فصيل ما ونكره الآخر. ختاما.. ليس الغرض من هذا المقال تشويه كل وسائل الإعلام بقدر ما هو محاولة لتسليط الضوء على الفنون والحيل التي تنتهجها بعض وسائل الإعلام للتأثير على جمهورها، أو بغرض استقطاب مزيد من المتابعين لها، وكيف يمكن للقارئ أو المستمع أو المشاهد العادي ألا يقع فريسة لهذه الحيل والألاعيب التي تؤثر حتما في طريقة فهمه لحدث ما، علما بأن القاعدة الأولى والأخيرة في هذا الأمر هو أن نشكك دائما في مدى صحة أي خبر أو معلومة مهما كانت، حتى تلك السطور التي أكتبها إليكم. لذا يرجى من فضلكم التأكد منها أولا!