"اليوم سأقص عليك قصة رجل من الفضاء الخارجي".. إنها فقط تعشق سماع قصص أناس من الفضاء الخارجي. برنامجها المفضل على التليفزيون هو "مريخي المفضل". ارتدينا قبعتينا المتخذتين هيئة قرون استشعار بعد أن صنعتهما أمس من رقاقات القصدير، وأحكمت ارتدائهما على رأسينا. واحدة لها والأخرى لي. لقد بدى وكأننا شخصان مجنونان بارتدائنا هذه الأشياء. قلت للطفلة الصغيرة: "في يوم ما، هبط شخص حكيم من كوكب المريخ إلى الأرض لتعليم البشر شيئا أو شيئين". ردت الطفلة بيضاء اللون التي تبلغ من العمر ثلاثة أعوام: "شخص مريخي؟ كم يبلغ حجمه؟". "أوه! نحو ستة أقدام وبوصتين". "ما اسمه؟". "مارتن لوثر كينج". أخذت نفسا عميقا وأسندت رأسها على كتفي. شعرت أن قلبها الذي يبلغ من العمر ثلاثة أعوام يسابقني، وينبض مثل الفراشات على ردائي الأبيض. "لقد كان شخصا مريخيا لطيفا حقا، السيد كينج، تبدو هيئته مثلنا تماما، أنفه وفمه والشعر الذي يعلو رأسه، ولكن أحيانا ما ينظر إليه الناس بنظرة ساخرة وأحيانا أخرى.. حسنا، أعتقد أنه أحيانا ما يرمقونه بنظرة دونية وضيعة على نحو صريح". قد أقحم نفسي في مشكلات جمّة بإخباري للفتاة عن تلك القصص القصيرة، لا سيما مع السيدة "لي فولت". ولكن "ماي موبلي" تعرف جيدا أن هذه هي قصصنا السرية.. وتساءلت الفتاة الصغيرة: "لماذا آيبي؟ لماذا يعاملونه الناس بتلك النظرة الوضيعة؟". أجابت السيدة سوداء اللون التي تعمل مربية للطفلة الصغيرة: "لأنه أخضر اللون"! كاثرين ستوكيت - من رواية The Help الحوار السابق بين مربية من أصول إفريقية وبنت بيضاء اللون في الثالثة من العمر تربيها الأولى، مأخوذ من رواية The Help التي كتبتها الأمريكية كاثرين ستوكيت عام 2009، قبل أن تحول إلى فيلم سينمائي عام 2011 نال العديد من الجوائز منها جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة عن دور مساعد لأوكتافيا سبنسر، وهو فيلم مميز بحق أنصح بمشاهدته، ويدور حول بعض الخادمات الأمريكيات من أصل إفريقي ومعاناتهن في مجتمع عنصري بولاية ميسيسيبي الأمريكية في فترة الستينيات من القرن المنصرم. قد يخرج البعض من مشاهدة هذا الفيلم أو قراءة الرواية المأخوذة عنه، بأن المجتمع الأمريكي يعج بأشخاص عنصريين ينظرون إلى كل من هو أسود اللون نظرة دونية عنصرية وضيعة، وقد يتعدى البعض حدود الزمان، ويعمم هذه النظرة على الفترة الزمنية المعاصرة، وكيف أن المجتمع الأمريكي لا زال أسير تلك الأفكار العنصرية البالية المتحجرة حتى اليوم، وإن تحوّل الأمر بمرور الزمن إلى نظرة دونية متعصبة للمجتمع الأمريكي نحو العرب أو المسلمين بصفة عامة، وقد تغذي تجارب بعض المسلمين أو العرب الذين يعيشون في أمريكا هذا الشعور السلبي، أو يشعر به البعض من خلال وسائل الإعلام الأمريكية التي تحاول أن تمارس هذا النوع من العنصرية على المسلمين والعرب. ولكن السؤال الأهم هنا: هل يمكننا بوصفنا مصريين أن نتعدى حدود المكان من قراءتنا للسطور السابقة في رواية The Help، ونرى تلك النظرة الدونية العنصرية القبيحة بين بعضنا بعض، أو بيننا وبين باقي شعوب القارة الإفريقية السمراء، أو بيننا وبين باقي الدول العربية الشقيقة؟ السؤال السابق ما هو إلا سؤال صادم ويحتاج إلى برهة من الوقت لالتقاط الأنفاس، بل يحتاج أيضا إلى شجاعة بالغة وصراحة وصدق مع النفس للإجابة عليه. ولرفع الحرج عن القرّاء، أجريت دراسة حديثة نشرت نتائجها جريدة واشنطن بوست منتصف الشهر الماضي، لمعرفة شعوب العالم الأقل والأكثر تسامحا تجاه الأجناس والشعوب الأخرى. وخلصت الدراسة بعنوان "مسح استقصائي لقيم العالم" World Values Survey، والتي أجريت على أشخاص من أكثر من 80 دولة مختلفة حول العالم، للإجابة على أسئلة تتمحور حول ماهية الشعوب الذين لا يريدونهم جيرانا لهم، إلى تأكيد أن منطقة الشرق الأوسط، وتحديدا دول السعودية ومصر، ليس بها شعوب متسامحة مع الأجناس والشعوب الأخرى. وفي المثال السابق فيما يتعلق بالسعودية ومصر، فإن موضوع الهجرة موضوعا شائكا في المنطقة، لا سيما عندما تجتذب الاقتصاديات الكبيرة في العالم العربي مهاجرين من الجيران الأفقر اقتصاديا. وفقا للدراسة، فإن من 30% إلى 39% ممن أجابوا على أسئلة الدراسة من المصريين، أكدوا أنهم لا يريدون جيرانا من عرق أو جنس آخر. وحمدا لله، هناك شعوب آخرون بالمنطقة أقل تسامحا من المصريين، وهم الأردنيون بنسبة أكثر من 50%، حسب الدراسة ذاتها. وبالانتقال من لغة الأرقام والدراسات التي تعضد دون شك من كون بعضنا عنصريين بدرجة كبيرة، إلى تجربة حياتية ذاتية عشتها. طُلب مني يوما ما كتابة تقرير صغير أثناء دراستي للإعلام بإحدى الجامعات الأوروبية قبل اندلاع ثورة 25 يناير المجيدة، عن كيف يرى العالم بلدك (مصر في هذه الحالة). وعلى الرغم من أن التقرير يبدو للوهلة الأولى سهلا، لكنه كان شائكا بالنسبة إليّ، لا سيما أن هناك وجهتي نظر لمصر مختلفتين تمام الاختلاف. وجهة نظر العالم الغربي لمصر بوصفها مهدا للحضارات وبلد الأهرامات والآثار الفرعونية الخلابة، وإن كان بعض الغربيين لا يزالون يرون مصر على أنها بلد بدائي يركب قاطنوها الجمال في تنقلاتهم بالصحراء. وفي المقابل، هناك وجهة النظر الشرقية المتمثلة في الجيران العرب الذين كانوا يعتمدون على مصر بشكل كبير في التعليم والطب وحتى الإيواء، قبل اكتشاف الثروة النفطية ليصبحوا بين ليلة وضحاها من أكثر شعوب العالم ثراء. ووجدتني أتوصل في تقريري إلى قناعة أن مصر رغم وقوعها في قارة إفريقيا، لكن معظم الأفارقة لا يعتبرون مصر جزءا من قارتهم السمراء، وهم على حق في هذا، لأن الثقافة المصرية هي شرق أوسطية في المقام الأول، حتى إن بشرة المصريين تختلف عن البشرة السمراء للأفارقة، كما أن المصريين يتكلمون العربية ومعظمهم مسلمون. لذا، فإن كل هذه الحقائق، جعلتني أذهب إلى أن الأفارقة يرون أن مصر دولة شرق أوسطية وعربية أكثر من كونها دولة إفريقية. وبالرجوع إلى التقرير ذاته بعد فترة زمنية من العيش والانصهار مع ثقافات وشعوب أخرى مختلفة، وجدتني لم أقل عنصرية و"عنجهية" عن الذين أنتقدهم: أنظر للعرب نظرة دونية عنصرية مردها أنهم كانوا يتعلمون ويتطببون ويعيشون في مصر على يد شعبها الكريم، وأستكثر عليهم تلك النعمة التي يعيشون فيها حاليا بفضل النفط أو الذهب الأسود. وبالمثل وجدتني أنا من أعتبر نفسي لست إفريقيّا، وليست إفريقيا هي التي لا تعتد بمصر على أنها دولة إفريقية، رغم أن المعلومة التي ساقها التقرير قد تكون صحيحة، ولكن في أعماق نفسي لا أريد أن يرتبط بي اسم إفريقيا السمراء لما قد يتبادر إلى الأذهان من تخلف وأميّة وفقر وجهل وخلافه، كما أن صورة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بوصفه زعيما لإفريقيا في الخمسينيات والستينيات أبدا ماثلة في الوجدان. خلاصة القول.. الأفارقة متخلفون ولكن هذا لا يمنع أن نقودهم ونترأسهم إذا لزم الأمر، ولكن "من بعيد لبعيد" حتى لا نصاب بتلك الأمراض التي تعج بها بلدانهم! يبدو أن تلك النظرة العنصرية الدونية تجاه الأفارقة والعرب تأبى ألا تفارق العديد من المصريين. إذا أردت مثالا على ذلك، تذكر كم تأففت من رؤية السوريين والليبيين ومن قبلهم العراقيين النازحين من بلدانهم عندما استقروا بأحياء سكنية شأن السادس من أكتوبر أو القاهرة الجديدة، وكنت تصف تجمعاتهم تلك بال"غزو"! تذكر، إذا كنت بائعا لسلعة أو لخدمة، كيف كنت تحاول أن تضرب قيمة تلك السلعة أو الخدمة في أربعة أو خمسة، لمجرد معرفتك أن زبونها أو مستهلكها من أصل عربي ثري. والتفرقة العنصرية على أساس ديني لا تقل أهمية، هل تتذكر كيف كانت تتغير ملامح وجهك عندما تعرف أن ذلك الشخص الذي تعرفت عليه في التو واللحظة مسيحي أو مسلم؟ والأدهى من ذلك، هل تتذكر كم مرة تأففت فيها من رؤية طفل صغير فقير يحاول أن يلعب معك وهو يجلس على حجر أمه التي تشاركك المواصلات العامة، لمجرد أن ملابسه ليست نظيفة أو يده متسخة، مقارنة بهندامك المتسق وقميصك الممهور بعلامة أوروبية شهيرة للملابس!
الاتجاه العام لم يختلف كثيرا مع الساسة وحكام البلاد، فكلنا نتذكر ذلك الحوار "الشيّق" الذي أذيع على الهواء مباشرة قبل أيام عند اجتماع الرئيس بالقوى الوطنية السياسية ورموز المعارضة لمناقشة تداعيات سد النهضة الإثيوبي. وبعيدا عن جدلية أن المشاركين كانوا يعلمون أو يجهلون إذاعة الحوار على الهواء مباشرة، فإن فحوى ومضمون هذا الحوار يعد مثالا للعنصرية لا يمكن تجاهله. أحد الحضور الذي كان مقدّرا له أن يصبح رئيسا لمصر، اقترح الترويج لشائعات بشراء أسلحة وطائرات لضرب إثيوبيا، كما أن المجتمع الإثيوبي "مهترئ لأقصى درجة"، داعيا إلى استغلال هذا الضعف للتأثير على قرارات إثيوبيا فيما يتعلق بقضية السد. آخر تكلم عن إثارة قلاقل داخلية واستعداء دول إفريقية بعضها على بعض. آخر اقترح تقديم رشاوى لقيادات سياسية وقيادات قبلية، بل واتهام دول إفريقية بالعمالة بصورة مباشرة. ناهيك بأن العديد منهم اقترح مباشرة ضرب السد بالطائرات المصرية. الغريب أن ذلك "الحوار الوطني" كشف عن مدى العنصرية الدفينة لدى بعض المصريين تجاه الأفارقة بصفة عامة، وهو ما احتاج إلى -فقط- إثارة موضوع يتعلق بالعلاقات المصرية-الإفريقية على السطح. والدليل هو هذا الكم من "الحلول" التي انحصرت في الهجوم وفرض سياسة القوة والمؤامرات، مقارنة بالحل الدبلوماسي السياسي المتعقّل! نعم إن قضية سد النهضة الإثيوبي وحصة مصر من المياه أمرا لا يمكن التهاون فيه، ولكن متى كان الحل العسكري وارتكاب الدسائس والمؤامرات خيارا أول قبل مناقشة الخيارات الدبلوماسية والسياسية تحت مظلة الشرعية الدولية؟ ختاما.. بعض المصريين مع الأسف يظنون أنهم وحدهم من كوكب الأرض في حين جيرانهم الأفارقة -تحديدا شأن الإثوبيين وغيرهم- من كوكب آخر، على الأرجح من المريخ، تماشيا مع الفقرة الأولى المأخوذة من رواية The Help: ذلك الإثيوبي "أخضر اللون" يختلف عنا في هيئته وطباعه وبشرته، لا يمكن التفاوض أو الحوار معه، لأنه ببساطة لن يفهم أو يستوعب الحوار المدني الحضاري، لذا فإن الحل الأوحد يتمثل في الهجوم والقضاء عليه وإعطائه درسا لن ينساه، يجعله يعرف الفرق بين السيد والتابع، وبين الحضاري والبدائي، وبين.. الأبيض و"أخضر اللون"!