لم تكن حادثة الإسراء والمعراج مجرّد معجزة أُسري فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة؛ رغم أن قومه في هذا الوقت كانوا يقطعون تلك المسافة فيما لا يقلّ عن شهر، ولم تتوقّف عند هذا، بل صعد إلى السبع سماوات، وقابل الأنبياء ليختم الرحلة بلقاء ربه وجها لوجه بالروح والجسد وليس بالروح فقط كما قد يدّعي بعض ممن لا يستطيع إيمانهم أن يُدرك عظمة الله تعالى وقدرته على تخطّي جميع القوانين. ويضرب إمامنا رحمة الله عليه الشيخ محمد متولي الشعراوي الأمثلة لعظمة الله وقدرته على خرق نواميس الحياة، مشبّها هذا الخرق لكل السرعات المعروفة وكل القدرات الإنسانية بأن الله تعالى استطاع أن يجعل النار بردا وسلاما على سيدنا إبراهيم عليه السلام، رغم أنه تعالى كان يستطيع أن يجعل إبراهيم يهرب من أعدائه لا أن يمسكوه ويلقوه في النار ثم يأمر الله النار أن تكون بردا وسلاما عليه، كما استطاع المولى سبحانه تعالى بقدرته أن يجعل الماء يابسا لموسى عليه السلام... وغيرها من المعجزات التي يدلّل الله تعالى فيها أنه لم يخلق الكون ثم يتركه لنواميس الحياة تسيره كما يقول بعض الملحدين، لكنه تعالى معنا ويرانا ويسمعنا، كما أنه رءوف بنا ولا يبتلي أحدا إلا لحكمة. كان العام الذي أُسري فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم قد تتابعت عليه المحن؛ ففي البداية وفاة السيدة خديجة -رضي الله عنها- زوجته التي ساندته وصدّقته، ثم وفاة عمه أبو طالب، ومِن ثمّ تجرأ أهل الطائف عليه صلى الله عليه وسلم وألحقوا الأذى به، وكذّبوه وسلّطوا عليه السفهاء لرميه بالحجارة، وقد تزامن كل هذا مع انقطاع الوحي لفترة، وهو ما جعل الرسول يعتقد بأن الله تعالى غاضب عليه، وأنه أذنب ذنبا شديدا، لكن مع ذلك همّته لم تفتر، بل رفع يده للسماء؛ قائلا: "اللهُمّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إلى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ". فأراد ربّ العزة أن يقول لنبيّه الكريم أن الابتلاء ليس غضبا عليه، ولكنه يبتلي المؤمنين ليرفع درجاتهم ويجزيهم بصبرهم كل خير؛ فكانت الرحلة المباركة للمسجد الأقصى؛ حيث صلّى نبينا الكريم بجميع الأنبياء، ثم صعد لمقابلة رب العزة لتزول جميع أحزانه، بعد هذا اللقاء المبارك الذي اختصّ به الله تعالى عبده محمد. وفي هذه الرحلة، فُرِضت الصلاة، وبعد أن كانت خمسين فرضا أصبحت خمسة بثواب خمسين، وهي إحدى النعم التي أنعم الله تعالى بها على نبيّه في تلك الليلة، حتى تُتجدّد الصلة يوميا بين العبد وربه، وتتأكّد عبوديتنا لله عز وجل. وهذه العبودية -وفقا لتفسير الشعراوي- ليست إذلالا للبشر؛ فالعبد قد يكون ذليلا إذا كان عبدا لإنسان مثله؛ لأن في هذه الحالة السيد يأخذ خير العبد، لكن في عبوديتنا لله شرف؛ حيث يمنح السيد خيره لعباده، وكلما زادت العبودية زاد الخالق في منحه لهباته وعطاياه لعبيده. وتتجلّى العبر والمواعظ بعد عودته صلى الله عليه وسلم من رحلته لينبّئ قومه؛ فما كان من بعضهم سوى الاستهزاء به واختباره وسؤاله أن يصف المسجد الأقصى، فلمّا وصفه صدّقه البعض وكذّبه البعض الآخر، بل ارتدّ بعض ضعفاء الإيمان عن الدين، وحتى لما حدّثهم بحادثة حصلت في الطريق كذّبه بعضهم أيضا، إلا أبو بكر بمجرّد أن قالوا له إن صاحبك يقول إنه سافر للمسجد الأقصى في ليلته وعاد، فما كان منه إلا أن قال: "إن كان قال هذا؛ فقد صَدَق"؛ فسمّي أبو بكر من وقتها "الصديق" لتصديقه النبي عليه الصلاة والسلام وإيمانه التام بما يقول وتسليمه بقدرة الله عز وجل على كل شيء. فهذه الرحلة أكّدت أن المؤمن الحق يسعد بعبوديته لخالقه، ويؤمن بقدرته المطلقة حتى لو خالفت ما يعرفه من منطق، كما أكّدت على أن الصبر على البلاء له خير الجزاء.. فصلّى الله على رسولنا الكريم وتبارك الله أحسن الخالقين.