نفسي أسافر!! أنا ولدت في حي العجوزة وتربيت به حتى سن الخامسة، ثم انتقلنا إلى إمبابة، وحياتي اختلفت تماما، فبدأت أسمع ألفاظا لم أعتد أن أسمعها، وأرى أشياء لم أعتد على رؤيتها.. كل شيء مختلف.. الجيران مختلفون.. البيئة مختلفة، كل شيء كل شيء!! أسكن الآن أمام شريط قطار كل دقيقة يزعجني صوت صفارته المجنونة! وأمام ميكانيكي يزعجنا بالغاز والبنزين والألفاظ البذيئة التي نسمعها رغما عنا.. وحولي مقاهٍ لا حصر لها، وشوارع قذرة، وأنا إنسان في منتهى النظافة؛ أبدا لا ألقي شيئا على الأرض مهما كان حجمه صغيرا، وعندي حساسية في صدري، فلا أحتمل الدخان الذي أشمه كل يوم.. والآن أصبحت القاهرة كلها إمبابة، تلوث وضوضاء في كل مكان، ظاهرة استخدام آلات التنبيه بشكل هستيري أصبحت تثير جنوني.. قلة العمل والدخل.. كل هذه الأشياء تؤثر في نفسي وتجعلني أدعو الله ليل نهار "اللهم أخرجني من هذه القرية الظالم أهلها" وأنتظر الإجابة.. شكرا لرحابة صدوركم.
ahmed
السلام عليك ورحمة الله وبركاته صديق "بص وطل" العزيز.. أما بعد، لا أعتقد صديقي أن مشكلتك الحقيقية هي ما يحدث حولك في مكان من أماكن جمهورية مصر العربية أخذ نهجا خاصا وسماتا تميزه عن غيره من أماكن أخرى مثل العجوزة، أو الدقي، أو غيرها من الأماكن التي اتفق السكان فيما بينهم على منهج وسلوك معين يجعل الشارع بما يحوي من محال، وغيرها في نظام واحد يراعي راحة السكان، وخصوصا كبار السن منهم والأطفال. بمعنى أن منطقة إمبابة، وشبيهاتها قامت على ما تصف أنت باتفاق عرفي بين أهل الحي، وهذا الاتفاق يؤكده عدم شكواهم مما يحيط بهم من تلوث سمعي وبصري وصحي.. إلى آخر كل أنواع التلوث. ومن يولدون في هذه المنطقة والمناطق المشابهة لها يعتادون ما يدور حولهم كل يوم، ثم يألفونه، ثم يعانون من فقده إذا حدث وانتقلوا لمكان ليس بمواصفات ما تربوا عليه واعتادوه.. لذلك شكواك من الحي والمنطقة السكنية لا مبرر له، فأنت غريب وكان لا بد أن تسأل عن الجار قبل أن تنتقل في هذه الدار. وقد تفهم من كلامي أنه لا بد وأن ترحل من هذا المكان فلا أنت أهل له ولا هو أهل لك، لكن أين ترحل والبلد كلها عشوائية السلوك والتصرف؟ وجمهورية إمبابة، أو بولاق الدكرور أو ما شابه صدّرت ما فيها من سلوكيات إلى باقي الأحياء في غياب المحليات التي سمحت بمحال على الأرصفة دون محال فعلية يستخدمون الميكروفونات، وأصواتهم، وجدالهم وعراكهم.. إلخ. وفي غياب الأخلاق حيث استن من لاعقول لهم سنة زفة العروس باستخدام أبواق السيارات متجولين أمام المستشفيات، والمساكن التي لا تعرف العروسين، وستتمنى لهما الحزن والقلق لإزعجاهما لهم بغير سبب بدلا من أن تتمنى لهما الرفاء والبنين. وفي غياب القانون حيث يمكن لأي شخص تحويل الشقق الأرضية في المساكن التي هي للسكينة والراحة إلى مقاهٍ ودخان شيشة وغيره، بالإضافة إلى أن بعض هذه المقاهي مكان لاجتماع من لا أخلاق لهم من الشباب والشابات. وخلاصة كلامي أن العشوائية والفوضى، بالإضافة إلى كل أنواع التلوث أصبحت مفروضة على الشعب كله، إلا من سكن منتجعات لا يدخلها غيرهم، أما باقي الناس تقريبا على طول البلاد وعرضها يعانون ما تعانيه أنت مع الفارق. وسأقص عليك قصة لتعرف أن المناطق جميعها تساوت في هذا الأذى العام بما فيها المناطق الجديدة المرتفعة الثمن. والقصة لسكان منطقة راقية حيث يحيط بالعمارات مساحات خضراء، وفواصل واسعة بين العمارة والأخرى، وبعض هذه العمارات له دور سفلي (بدروم) يستخدم كجراج للسيارات، وظل الحال هكذا حتى سنوات المخلوع العشر الأخيرة ثم بدأ التغيير يدب في المكان، فتحولت الجراجات لمعارض لبيع المستعمل والجديد من السيارات، تبدأ عملها من الثامنة بعد المغرب حتى أذان الفجر.. وحدّث ولا حرج عما يدور بين أصحاب هذه المعارض والزبائن من ضجة وضجيج ودخان سجاير يصعد لكل السكان بالتساوي، إلى جانب معارك بالأسلحة البيضاء بين أصحاب المعرض وأحد الزبائن الذي اشترى الوهم على اعتبار أنه سيارة. وقد حاول السكان الاعتراض، ولكن كما تعرف صديقي فنحن لا نتفق على شيء، فأصبح المعارضون لهذه الضوضاء أعداء مباشرون لأصحاب المحال التي حولت المنطقة السكينة الهادئة إلى سوق سيارات، ومدينة للحرفيين، خصوصا بعد أن انتشر حول هذه المحال باعة الطعام من كل لون يصدرون روائح لا تقبلها النفس السوية. هل تعرف صديقي ماذا حدث لأحد المعارضين الذي يعمل أخوه مدير أمن إحدى المحافظات؟؟ قتلوه بالرصاص صديقي وقيدت الحادث ضد مجهول وخرس باقي سكان الحي وهم من علية القوم من أساتذة الجامعات، والبحث العلمي، والقضاة، وضباط الشرطة.. ومن تمكن منهم الحصول على مسكن آخر يحظى فيه بالهدوء والنظافة لفترة حتى تأتي العشوائية والفوضى، هرب وترك مكانا واسعا يملكه وسكن في نصفه بالإيجار بالمدة بأضعاف الثمن. هذا حال بلادنا صديقي التي غاب عنها القانون وانتشرت فيها البلطجة بفرض الأمر الواقع على الناس عن طريق أناس تقبض الرشى لتسهيل هذه الفوضى وفرضها، وأناس تسكت خوفا، أو قلة حيلة، أو أسباب كثيرة لا يحتمل المقام سردها. ونصيحتي لك صديقي ليست سهلة التطبيق، فالانتقال لمكان آخر يلزمه مئات الألوف من الجنيهات، وفي أماكن نائية بعيدة عن المواصلات والخدمات، ولا بد من سيارة ومستوى دخل يلاحق هذه التطورات، والصبر على ما أنت فيه يلزمه وقت لتتعود وتعتاد على ما لم تتربَ عليه في صغرك حتى يرزقك الله بعمل خارج البلاد يمكنك من المال واختيار مكان تتوافر فيه الظروف الملائمة لحياة الإنسان السوي الذي يعرف الفرق بين السكن والراحة والنوم في بيوت، وبين السكن والنوم وقلة الراحة والنوم في السوق، أو في الشارع، فصبر جميل صديقي، والله المستعان على ما نحن جميعا فيه.