يبهرني صغر هذا العالم على رحابته: ينهار البرجان فأتزوج، وتسقط بغداد فتنتهي حياتي المهنية. أحببت زوجي قبل أن نتزوج. أحببت فيه أحلامه عن التغيير وقدرته على أن يعيش التغيير الذي ينادي به. وأحس هو في وقت مبكر من حياته أن مواهبه لن تقدّر في مصر، وعليه أن يتركها ليستطيع أن يفيدها أكثر على المدى الطويل؛ فعمل جاهداً على أن يهاجر إلى أمريكا فور حصوله على شهادته الجامعية. وكجزء من مشروع الهجرة اتخذ زوجي (قبل أن يصبح زوجي) قراراً بعدم الارتباط حتى لا تكون لديه أي قيود قد تحول بينه وبين حلمه عندما يحصل أخيراً على تأشيرة الهجرة. ثم تقابلنا. وبعد خلافات استمرت ثلاث سنوات؛ يقول فيها هو: إنه لا يريد الارتباط؛ لأنه مسافر عاجلاً أو آجلاً، ولا يريد أن "يربطني جنبه" ويظلمني معه، وأقول فيها أنا: إني لا أريد الارتباط لأني لا أريده أن يضحي بحلمه من أجلي؛ بعد هذه الخلافات حلّ الإرهابيون مشكلتنا، وضربوا برجي التجارة بنيويورك. ولأن زوجي يعمل في مجال البترول؛ أصبح من غير الواقعي أن يتخيل أن بعد أحداث سبتمبر سيُسمح لعربي أن يقترب من بترول أمريكا، فتزوجنا في أكتوبر 2001. لحسن الحظ (أو سوئه) لم يمر وقت طويل على زواجنا حتى اكتشفت أن سبب خلافاتنا السابقة لم يكن مجرد تمسكه بحلمه وتمسكي بتمسكه بحلمه؛ كان يريد أن يكون هو "هو"، وأكون أنا كما يريد هو. ولأني اخترت زوجي بحرية تامة، وبكامل قواي العقلية؛ فقد تحملت سخطه الدائم على الحياة، وعلى الذين يحيونها، وعلى حال البلد، وعلى الذين يعيشون فيها، وإن كنت أجد صعوبة في فهم أسباب سخطه أو التعاطف معه: فهو يعمل في شركة أجنبية، ويقبض راتبه بالدولار، ولديه سائق خاص، وإجازة سنوية شهرا في العام، وجميع أصدقائه من الأجانب المتقززين من مصر، أو المصريين الذين لا يملون من تذكيرك بأصولهم الملكية التركية، أو الشامية، أو الروسية، أو الرومانية، أو الفارسية، أو أية ملكية أخرى لم يعد لها وجود. ولكنه كان دائم التذمر من القمامة، والزحام، ورئيسه المباشر المصري، والفساد، والجهل، والذباب، وإشارات المرور... إلخ، ويفتعل مشاجرات مع الزبال والمكوجي واللبّان فقط لتتاح له فرصة إعطائهم درساً عن الحياة في الدول المتقدمة، وكيف أننا لن نتقدم طالما تأخر المكوجي في إحضار الملابس المكواة. كنت أنزل الدرج يوماً، فسمعت اللبان يسأل البواب إذا كان "الراجل الأهبل" موجوداً فوق، ففهمت فوراً أنه يتحدث عن زوجي (حيث لا يسكن أحد "فوق" سوانا) فثرتُ ثورة عارمة، واكفهرّ وجهي، والتمعت عيناي بالدموع، وقررت أن أنزل الدرج سريعاً لألحق باللبان و"أريه شغله"، ثم تداركت نفسي، وتذكرت أن آخر مرة مرّ علينا اللبان انتقد زوجي ذوقه في اختيار ألوان ملابسه، وقال منفعلاً: "لازم يكون في بوليس يقبض على الناس اللي لابسة مبهدل!". ضحكت في سري: "طيب ما هو أهبل فعلاً!". وينفجر زوجي في وجهي عندما أحاول أن ألفت نظره إلى أن في أمريكا هناك مشاكل بطالة وفقر، وهناك ظلم وجهل أيضاً، وأحاول أن أدعم وجهة نظري؛ فأقول إني شاهدت فيلماً أمريكياً مأخوذاً عن قصة حقيقية، وتدور أحداثه في أمريكا عن مشكلة المتشردين عندهم؛ فيكون رأيه أن "الأفلام دي بيعملها الحالمون والشيوعيون أعداء أمريكا". كانت وجهة نظره أنني أسبح في بحر من الأوهام الجميلة التي لا أريد أن أفيق منها. اقترح علىّ أن أكتب قصة اسمها "سميرة في بلاد العجائب"؛ فربما يستطيع أن يفهم كيف أرى هذه البلد. ويرى في عملي في مركز ثقافيّ مهتم بالمواهب الشابة الفلسطينية هروباً من واقعي "المصري" (كأن الواقع الفلسطيني شيء يتوق المرء للعيش فيه). وبرغم كراهيته للجرائد المصرية أصبحت من عادات زوجي المقدسة قراءة صفحة الحوادث كل يوم. يقول أنه يتعلم منها أساليب للدفاع عن نفسه عن طريق المعرفة المسبقة لحيل اللصوص، وأن ذلك يكسبه قدرة على فهم النفس البشرية. أقول له إن النفوس البشرية في صفحة الحوادث هي نفوس مريضة في أغلب الأحوال أو مضطربة على الأقل؛ فيرد: "نعم، ولكنها ما زالت نفوساً وتندرج تحت البشر". وفجأة وبرغم توقعاتنا جميعاً، وبرغم شجبنا وإدانتنا وولولتنا وخبط رؤوسنا في الحائط... سقطت بغداد. بدا لي بوش وكأنه يلعب لعبة النقاط التي كانت أول ما تعلمناه في روضة الأطفال: نصل الكرة بحرف الكاف والجزرة بحرف الجيم، أو نصل الأرقام لنشكل أرنبا أو قطة، ولكن في حالته أوصل بوش الإرهاب بحروف اسم صدام ووصل الأرقام ليشكل واقعاً جديداً مرعباً. وهنا قررت الجهة التي تمول مشروعات مركزنا الثقافي سحب دعمها وتوجيهه إلى مركز آخر مهتم بالمواهب الشابة العراقية هذه المرة. نحاول أن نبحث عن مصدر آخر للتمويل بلا جدوى؛ "فالموضة السنة دي العراق" على رأي مديري. أنظر إلى الأنقاض التي خلّفها سقوط البرجين حولي: زواج ينخر فيه سوس عدم التفاهم، وعمل ملقى على قارعة الطريق لا يريد أحد أن يرميه في القمامة، ولا أن يحتفظ به في متحف. أمضي أيامي متسمرة أمام نشرات الأخبار والتحليلات السياسية. أخاف أن أغيب عن البيت لعدة ساعات؛ لئلا يفوتني شيء قد يغير مسار المهزلة اليومية. يستمر زوجي في نشاطاته اليومية بمنتهى الالتزام والاهتمام (وعدم الاهتمام بالعالم خارج حدود أطرافه الأربعة). شيئاً فشيئاً أسقط في رمال الاكتئاب المتحركة فلا أقاوم. يعود يوماً من العمل ليجدني ممددة على أرضية المطبخ أبكي، وأنا ممسكة بقنينة زيت زيتون. يقرر أنه حان الوقت للطبيب. يسألني الطبيب بماذا أشعر، فأقول إنني لا أعرف. يسألني مما أعاني، فأقول إنني لا أعاني. يصمت قليلاً ثم يسألني متى مشطت شعري آخر مرة، فأقول منذ ستة أيام، فيصف لي مضاداً للاكتئاب. لا أشاهد التلفاز الآن. منعه الطبيب. أقضي أيامي أحاول أن أعرف كيف تمر أيامي. وعندما يعود زوجي من العمل، على غير العادة أجد نفسي أريد أن أجلس قريبة منه. لا أريد أن يختلي بي عقلي. أتنهد. يرفع زوجي عينيه من جريدته وينظر إليّ متسائلاً. أقول: "يلعن أبو أمريكا"! يرفع حاجب واحداً مستغرباً. فأضيف: "وابن لادن"! يهز رأسه مؤيداً، ويعود إلى صفحة الحوادث.