بدأت خدمة التاكسي الأبيض في الانتشار مؤخراً، الخدمة جيدة للغاية فهي تحل الكثير من مشاكل التاكسيات التقليدية، وأهمها هو أن التاكسي يعمل بالعداد، ولذلك حتى لو زادت القيمة المادية قليلاً -فقط في التوصيلات القريبة- فلا تحدث مشاكل بين الراكب والسائق، ولا يشعر الراكب بأنه يتم استغلاله؛ بل هو في حالة التاكسي الجديد يدفعه بإرادته؛ ناهيك طبعًا عن فكرة عدم تعدد الزبائن؛ فطالما فتح السائق العداد وركب شخص لا يستطيع أن يُركب غيره إلا بعد هبوطه، وبالطبع لن ننسى ميزة المكيف التي يتمتع بها الراكب؛ خاصة في الصيف؛ ناهيك عن آخر المميزات وهو أنه يوفر ماديًا حقًا في المسافات الطويلة عندما يقارن بالتاكسي الأسود القديم. والحقيقة أن هذه مقالة وليست إعلاناً عن مزايا التاكسي الجديد، ولكنك ستسمع من كل من تعامل مع الخدمة الجديدة تقريبًا هذا الثناء عليها والسعادة بها.. لذا عندما غادرت معرض الكتاب وأوقفت التاكسي وهممت بالركوب وفوجئت به يسمعني الكلمة القديمة التي كنت قد ظننتها انتهت من قاموس التاكسيات "هتدفعي كام يا آنسة؟"؛ أصبت بصدمة شديدة، ثم زادت صدمتي عندما أضاف "هاخد 20 جنيه في المشوار ده".. ولكني لم أترك للصدمة مجالاً لتضييع الفرصة؛ فواجهت السائق بأنني لن أدفع هذا المبلغ، وأنه لا يحق له أن يقوم بمقاولة الراكب على مبلغ محدد، ويجب أن يعمل بالعداد، سخر الرجل من كلماتي؛ فما كان مني إلا إخراج ورقة وقلم وأخذ رقم السيارة وتهديده بأنني سأبلغ عنه المرور.. لم يكن كلامي مجرد تهديد؛ فلقد نويت حقًا الإبلاغ عن الرجل، وقد يعتبر البعض هذه قسوة؛ فهو بالتأكيد لديه أطفال وبيت مفتوح يصرف عليه؛ ولكن لو نظرنا حولنا سنجد أن هذا أحد أهم أسباب تراجعنا، وأحد أكثر العوامل التي تُصعّب علينا الحياة كمواطنين؛ فهذه الخدمة تفيد الكثيرين بشكلها الحالي، ولكن صمتنا على تحولها شيئاً فشيئاً لتعود وتصبح مثل التاكسي القديم، لن يضر سوانا، اليوم سأصمت أنا، وغدًا يصمت غيري، ولا رادع لمن يقومون بهذه الأفعال مما سيشجع غيرهم على فعل المثل طالما لا يوجد عقاب، والنتيجة أنه في ظرف عام لن نجد أي تاكسي يسير بالعداد وانتهى الأمر.. والحقيقة أن الرجل كان يعرف هذا جيدًا؛ فهو لم يكترث بتهديدي وضحك منه، ولسان حاله يقول أن الكل يهدد ولكن لا أحد يفعل شيئاً، وفوجئت بأصدقائي يحذرونني بشدة بأن أقدم شكوى قد تتسبب في مشاكل لي، وعندما تعجبت من كوني على حق هنا لم يجيبوني وإن كان رأيهم واضحاً تماماً. ولكن الأكثر عجبًا أنني لم أجد وسيلة واضحة للشكوى؛ بحثت عن رقم هاتف أو بريد إلكتروني أو حتى عنوان أستطيع أن أتقدم بشكوى فيه عند حدوث موقف كهذا؛ فلم أجد، وإن كانت متواجدة فلم يهتم أي شخص بأن ينوّه عنها أو يوضحها.. وهذا ببساطة يعني أن الحكومة نفسها لا يعنيها الأمر.. أتذكر وأنا طفلة صغيرة عندما بدأت خدمة "الميني باص" في الظهور، كانت هناك محاذير شديدة تؤكد أن الميني باص وجد كي يتلافى عيوب الأوتوبيس؛ ولذلك فممنوع أن يركب أي راكب زائد أو يقف داخله، وهناك مخالفات جسيمة لمن يكتب على جدرانه أو يحاول تقطيع المقاعد إلى آخر هذه الأفعال؛ ولكن أنظر الآن إلى "الميني باصات" وأتعجب؛ كيف وصل حالها إلى هذا الحال؟! نفس الكلام ينطبق على الأوتوبيس المكيف عندما ظهر، أنظر إلى حاله الآن، أغلب الحافلات فسد بها المكيف وأصبحت قطعة من الجحيم؛ خاصة في الصيف نظرًا لعدم وجود نوافذ مفتوحة بها؛ لأنها صممت كحافلات مكيفة.. ولكن لا أحد من مستخدمي الخدمة يهتم بأن يشتكي أو يبلغ عن سوء استخدام، ولا أحد من مشغّلي الخدمة يهتم بالمتابعة أو الصيانة أو حتى تسهيل الشكوى.. ولا داعي أن نعدد تكرار هذا الأمر في كافة وسائل المواصلات من القطارات إلى مترو الأنفاق حتى تاكسي العاصمة.. فحتى طائرات شركة مصر للطيران في ذيل القائمة لأي راكب يريد أن يتمتع بحقه الآدمي في السفر.. المشكلة أننا تعوّدنا أن حياتنا كلها تكرار للمثل الشعبي القائل "الغربال الجديد له شَدّة" حتى لم نعد نستغرب ذلك، ولا يهمنا تدهور الأشياء حولنا؛ فلم نعد نهتم بإصلاحها أو مقاومة إتلافها منذ البداية وكأن ما يحدث هو الدورة الطبيعية للحياة.. لقد تعودنا الإهمال والتحايل على القوانين والضرب بها عرض الحائط؛ حتى أصبح من يصرّ على العكس مجرد متحذلق آخر.. المشكلة أن كل شيء يتداعى حولنا ونحن ننظر له بلا مبالاة وكأنه لا يخصّنا، وكأننا ضيوف عابرون على هذا البلد وهذه الأرض، ليس فقط في بعض وسائل مواصلات؛ ولكن هذا يحدث في كل صغيرة وكبيرة حولنا؛ ولكننا نكتفي فقط بالشكوى والصراخ بأن كل شيء في البلد سيئ، ولا نهتم بأن نسأل أنفسنا ولو لحظة، هل حاولنا إصلاحه؟؟ هل حاولنا حتى مقاومة إفساده باليد أو باللسان؟؟ بل نكتفي دائمًا بأضعف الإيمان، والكارثة أنه حتى هذا لم يعد يحدث؛ فلم نعد نعترض حتى بقلوبنا بل قبلنا بالأمر الواقع؛ انتظارًا لما هو أسوأ.