باسم يوسف "إن الخطب الرنّانة في القنوات الدينية التي تزعق بجملة "الإسلام قادم" بعيدة كل البُعد عن الواقع، بل وربما إذا استمرّت الأمور على هذا النهج فاحتمال الشعار في المستقبل يكون الإلحاد قادما". كانت تلك الجملة الصادمة هي بداية الحوار مع أحد العاملين في مجال الدعوة في الأزهر الشريف، وهو يكاد يبكي مما يراه يوميا في تزايد أعداد الملحدين الذين يتعامل معهم في مجال عمله. والمثير للاهتمام أنني وجدت هذا المعنى يتكرّر في حواري مع دعاة آخرين داخل وخارج الأزهر. صدمتك؟ أنا آسف.. استحملني، لكن تعال نتكلّم بصراحة؛ هل هناك ملحدون في مصر والعالم العربي أم لا؟ إذا أجبت بلا، فأرجوك أن تتوقّف عن القراءة الآن؛ لأن هذا معناه أن حضرتك تعيش في مدينة موجودة فقط في مسلسل على هامش السيرة، حيث الجميع موحّدون بالله. بصراحة أكتر بالرغم من انتشار المظاهر الدينية، هل لاحظت في السنين الأخيرة ازدياد مَن يصارحونك ببعدهم عن الدين بل وربما بعدم إيمانهم بمنظومة الأديان عامة؟ يمكنك أن تثور لغيرتك على دينك وتسارع كأي مسئول حكومي للإنكار، وتقول إن هذا كلام مبني على أعداد قليلة موجودة فقط في الطبقة البرجوازية العلمانية المستريحة التي تحقد على الدين الإسلامي، وتريد أن تنشر الرذيلة والإلحاد. لكن هناك قرّاء آخرين ربما لا يُشاركونك الرأي بل وربما سيحكون لك عما يحدث في المناطق الأكثر فقرا، وعن المقاهي التي توارب أبوابها في نهار رمضان والناس مفطرون بالداخل، أو عن الآلاف المؤلّفة من المهمّشين والفقراء وأولاد الشوارع الذين يرتبطون بالدين فقط في المناسبات. لكني هنا لا أتكلّم عن وجود الملحدين من عدمهم، أنا أتساءل معك: ماذا سنفعل في المستقبل القريب إذا بدأ هؤلاء الناس فعلا بالكشف عن معتقداتهم؟ مع وجود مقدّمات لذلك فعلا. طبعا هناك حلول سهلة أولا التنفيض: وهو لفظ معاصر يعني أن تتجاهل هذا الموضوع على أساس أنهم ناس قليلة.. يا دوب على مواقع التواصل الاجتماعي ومالهاش لازمة نوجع دماغنا؛ أي "ادفن الرأس في الرمال". ثانيا: حركة أكثر كلاسيكية وهي محاربة هذه الفئة الضالة وتجريمها واستعمال المواد المتاحة في القانون والشريعة لاتخاذ جميع الإجراءات المناسبة للقضاء على هؤلاء، من أول الاستتابة للتجريم للحبس وإن شاء الله حتى نحرق بيوتهم. الحل الثاني سيلقى هوى في نفوس الغيورين على دينهم.. المنع، التعقّب، الحجب. "يا أخي كل واحد حر في معتقده بس بعيد عننا، هو إحنا ناقصين قرف؟". الحجب والمنع والتقفيل هو الحل السحري في عالمنا الإسلامي. "يا أخي اشرب خمرة، بس في بيتك"، "البسي اللي إنتي عايزاه، بس في بيتك"، "أعتقد اللي إنت تعتقده.. بس في بيتك". فبالنسبة لنا أفضل شيء هو العيش في عالم موازٍ؛ حيث مظاهر التديّن والخشوع والإيمان في الشوارع، لكن إنت حر إنك تقلب بيتك خمّارة أو مكان للموبقات، المهم ألا أراك. عارفين أسلوب كنس التراب تحت السجادة؟ مش مشكلة التراب راح فين، المهم إني مش شايفة. اسمح لي عزيزي القارئ أن نُخرج رءوسنا من الرمال لبعض الوقت، وتعالَ نسأل أنفسنا ونتخيّل: ماذا يحدث لو كل هؤلاء الناس خرجت عن صمتها وجاهرت بالإلحاد؛ مجرّد قالوا نحن غير مؤمنين بكل ما تدعون به، بل وبدأوا يُنظّمون المؤتمرات لعرض أفكارهم، وناقشوا إذا كانت الرسالات السماوية في الأصل سماوية، ودعوا المشايخ والدعاة لمناقشات مفتوحة عن العقيدة. تذكّر عزيزي القارئ أن معنا حل سحري: الحجب، المنع، تهمة ازدراء الأديان، الحبس، الحرق، ومش بعيد القتل. لكن هل هذا يحل المشكلة؟ "طبعا يا أخي يحلها، هو إنت عايز ابني ولا بنتي يسمعوا الكلام ده والشباب يحص له بلبلة؟". أحب أقول لك إن ابنك أو بنتك يتعرّضون لهذه البلبلة وإنت تقرأ هذا المقال.. أكثر المواقع التي يدخل عليها الشباب بعد المواقع الإباحية هي المواقع الدينية، بل والمواقع التي تهاجم الدين. إذا كنت سيدي القارئ تعتقد أن الشباب في عائلتك لم يتعرّضوا لاختبار إيمانهم في السنين الأخيرة ودخلوا مناقشات مع من لا يشاركهم نفس الإيمان؛ فهنيئا لك بأطنان من الرمال التي تدفن فيها رأسك. "فلنحجب هذه المواقع كلها"..!! دي بقى جبال من الكثبان الرملية التي تريد أن تدفن فيها المجتمع بأكمله.. نقفل الإنترنت وبالمرّة القنوات الفضائية، ويا ريت لو نمنع السفر من وإلى بلدنا المؤمن المتديّن بطبعه حتى لا نعرض شبابنا لمثل هذه الأفكار الهدّامة. كم مرة سمعنا ذلك: "حتى لا نعرض شبابنا لمثل هذه الأفكار الهدّامة"؟!! وهذه يا سيدي هي مصيبة الدعوة في تاريخنا المعاصر.. نحن لا نريد أن نتعرّض للتحديات، بل ونضحك على أنفسنا أنها غير موجودة أصلا، ولو طلت هذه التحديات برأسها نستخدم القانون والشريعة والعرف لقطعها، ونكفي على الخبر ماجور. الحمد لله تمّت المهمة وعمّ الإيمان والإسلام ربوع البلاد.. اقفل الجرح على صديد وكله هيبقى تمام. وكل ضال مضل يخاف ويلزم بيته، لكن هل سلّحت أطفالك عقليا وإيمانيا بحيث يستطيعون التعامل مع هذا الفكر؟ هل استرحت الآن وهؤلاء الضالون المضلون لم يعودوا موجودين أمامك؟ بل ربما سيُصبحون مسئولين عن أطفال ستكبر ولا ترى أهلها تصلي ولا تهتمّ أصلا بالدين بالعكس ربما ينقلون إليهم فكرهم السلبي جدا عن الأديان، لكن مش مشكلة، خلّينا في دلوقتي. مبروك.. إنت أجّلت المشكلة وفي المقابل وأنت سعيد بحجب المشكلة، كانت عضلات الدعوة تضمر وتضعف. تعالَ نتكلّم بأسلوب الكورة.. سيادتك عندك المنتخب القومي، لكنه يلعب يوميا مع فريق مركز شباب السنبلاوين، وكل يوم منتخبنا يفوز عشرين صفر؛ فنهلل في المدرجات، ونذيع أغنية "والله وعملوها الرجّالة". بعد سنين من اللعب مع مركز شباب السنبلاوين وسياسة الانغلاق وعدم الاحتكاك مع فرق مختلفة؛ قرّر فريقنا أن يلعب ضد إسبانيا. تعتقد كيف ستكون المباراة وقتها؟ وهل رمي الطوب في الملعب وضرب الفريق المنافس واتهام الحكم بالرشوة، سيغطي على عجزك في الملعب؟ بلاش كورة يمكن مالكش فيها؛ تعالَ نتكلّم تجارة: تخيّل أنك افتتحت مطعما في شارع عمومي، ولضمان الربح اتفقت مع الشرطة على تحطيم أي محل آخر لمنع المنافسة.. هذا معناه أنك غير واثق في بضاعتك وتريد أن يغطى القانون على عجزك لتسويقها. أظن وضحت.. "طب يعني هو إحنا لما هنتكلم مع الناس دول هيرجعوا يعني للدين، افرض فضلوا زي ما هما على إلحادهم؟". الموضوع ليس مناقشة تنتصر فيها على من أعلن إلحاده، فذلك لا يأتي من جلسة أو خطبة أو حوار تليفزيوني، بل وفي أغلب الظن سيحتفظ كل طرف برأيه. المشكلة هي في من يراقب هذا النزال الفكري ممن لديهم الكثير من الشكوك حول معتقداتهم وأمامهم من يفنّد أساسيات دينه ومعتقداته من ناحية، وعلى الناحية الأخرى هناك من يستخدم الصوت العالي ودعاوى المنع. وحتى حين يحاول إقناع الطرف الآخر يستخدم أدلة من الكتاب والسنة التي لا يؤمن بها الآخر أصلا أو يلجأ لخطاب عفا عليه الزمن أو إلى الفظاظة والحنجورية المتبعة الآن في خطاب كثير من الدعاة للتغطية على معتقدات الآخرين. الدعوة يا سادة ليست قدرتنا على استعراض قدراتنا الفقهية لإقناع من يتفق معنا بتفاصيل ربما لا تضيف إلى الإيمان شيئا. الدعوة ليست الشتيمة والتعامل مع من لا يؤمن بمعتقداتك من منطلق هجومي والتسفيه من معتقداته وقفل الموضوع على أنهم ضالون وخلاص. الدعوة هي تقبّل التحديات الفكرية والأيديولجية والقدرة على النزال العقلي معها. الدعوة هي القدرة على التعامل مع مَن يختلف معك بالكامل ودعوته ليتقبل فكرك وليس حجبه بالكامل، أمال اسمها دعوة ليه؟ الحجب والمنع والسجن والتعقب ممكن ينفع مرة، اتنين، عشرة، لكن مع مرور الوقت سيكون هناك ازدياد في أعداد من لا يؤمنون بما تؤمن به.. وحين يأتي الوقت للنزال، سيكون عددهم قد زاد وحجتهم قد قويت، وعلى الجانب الآخر تكون أنت قد أضعفت عضلات وقدرات دعوتك بالانغلاق على نفسك. ويمكنك رؤية نتيجة الانغلاق في بلاد تقول إنها تطبّق الشريعة. بدليل العدد المتزايد سنويا من الملحدين في بلد خليجي شقيق تنضح شوارعه بالتقوى والورع والاحتشام، بصرف النظر عن الفساد المجتمعي الذي ينهش في خلف الأبواب المغلقة؛ فالموضوع لا يقف عند انتشار شرب الخمر وارتكاب الموبقات في البيوت، ولا حتى التحرش الجنسي في مواسم مقدّسة، بل وفي السنين الأخيرة بدأت أعداد الشباب التي تتجه للإلحاد في ازدياد. بلد تانية مش شقيقة أوي يقال إن 70% من طلبة الجامعة لا يصلّون ولا يصومون. الحل ليس في قوانين، أو دستور، أو بضع أوراق نملأها بالحبر تضمن حماية هذا الدين من الانتقاد ومن الطعن فيه. كل هذه المحاولات لحماية الدين تحت دعوى إقامة حكم الله وحفظ دينه إنما تعكس عدم قدرتك أنت على الدعوة السليمة للدين في سوق مفتوح للأفكار، بل وربما تعكس عجز دفين على إقناع الآخرين ودعوتهم للإيمان إلا في ظلّ خلوّ الجو من أي منافسة. يمكننا طمأنة أنفسنا أن كل شيء على ما يرام، لكن عاجلا أو آجلا سنستيقظ على صفر كبير مثل صفر المونديال الذي أتى بعد شهور من كلامنا مع نفسنا، ثم اتهمنا الجميع بالمؤامرة وذهب المونديال وبَقِي الصفر. لذلك فإذا اخترت هذا الاتجاه؛ فهنيئا لنا هذا الصفر الذي يتمثّل في خلق مجتمع من المنافقين يطيع الله ظاهريا ويتعفن أخلاقيا، ومع مرور الوقت لن يكون الموضوع قاصرا على البيوت.. المعاملات التجارية والحياتية والاجتماعية سوف تتأثر بمجتمع منحل أخلاقيا يستخدم غطاء من الدين للتغطية على فساد أخلاقي مرعب. أولادك الذين تسعى لحمايتهم سيتعرّضون لهذه الأفكار في بيوت أصدقائهم أو على الإنترنت أو في السفر، ده في حالة أن الحاجات دي لسه مفتوحة. الآن يمكنك اتهامي بما شئت من أنني أريد الانحلال والإلحاد وإفساد المجتمع. ويمكنك أن تراجع المقال مرة أخرى وتوقف عند حقيقة واحدة.. المنع والحجب والترهيب لم ينجح في محو أي فكرة أو أيدولوجية، بل بالعكس ربما جعل من مؤيّديها أبطالا وأسهمت في زيادة انتشارها. لم تنجح هذه الأساليب على مرّ العصور، ولكن ما نجح فعلا أن الفكرة القوية والدعوة السليمة انتشرت وتعايشت مع الجميع. الإسلام في أوجّ قوته لم يمنع ولم يضيق.. تعايشت تحت ظلال الإمبراطورية الإسلامية ملل وثنية واتجاهات ملحدة، وعبدة النار وأفكار متطرّفة. ولم يضر الإسلام منها شيئا. "الكلام ده كان زمان يا أستاذ لمّا الإسلام كان لسه بينتشر في الهند والصين، لكن خلاص الإسلام استقرّ ومش محتاجين نتعايش مع حد". إن هذه حجة سطحية يتم بها تشبيه الدين بعملية وضع يد على أرض متنازع عليها. وبعدها خلاص، دي أرض إسلامية، ودي شعوب إسلامية ودي نهاية القصة، لكن يا سيدي استقرار الأديان يأتي بتجديد الخطاب وتجديد شباب الدين، وليس بالاعتماد على توريث هذا الدين من جيل لآخر في حين تتخاذل أنت عن حمايته من التحديات الفكرية.. حماية الدين لا تتم عن طريق المنع، ولكن عن طريق تجديد أساليب الدعوة وتقويتها. هذه الحجة هي دعوة صريحة للكسل والتخاذل وعدم قدرتك على القيام بدورك كمسلم يستطيع أن يواجه تيارات فكرية مختلفة. بإمكاننا أن ندع الدعوة تضمر وتضعف في بحار من الرمال التي ندفن فيها رءوسنا متظاهرين بعدم وجود مشكلة.. حل سهل وكارثي في الوقت ذاته. أو أن نعترف أن لدينا مشكلة حقيقية، وأن هذه المشكلة ليست في وجود الملحدين في حد ذاته؛ فالإلحاد موجود قدم الأديان، ولكن يجب أن نعترف أن لدينا مشكلة في الدعوة والخطاب الديني، وربما بسماحنا بظهور التيارات المخالفة لنا على السطح يمكن أن نقوّي عضلاتنا العقلية والإيمانية مرة أخرى بدلا من المنع والحجب والحبس. وحتى لو كنت واثقا في قناعاتك وإيمانك، ربما نحتاج ذلك من أجل الأجيال القادمة.. أجيال تبحث عن المعلومة وتجدها بنفسها بدون الرجوع إليك.. أجيال مكشوفة لسماوات مفتوحة لن تستطيع أن تحجبها عنهم. ربما حان الوقت أن نحتك بفرق أقوى من مركز شباب السنبلاوين، أو نقبل المنافسة مع محال أخرى في نفس الشارع من أجل تحسين أدائنا بنفسنا من قبل أن يفرض علينا ذلك. فربما بعد كل ذلك نجد فائدة ما لوجود هؤلاء الملحدين، ربما بظهورهم نضطر لتطوير الخطاب الديني من مجرّد خطبة عصماء موجّهة لمن يتفق معنا في الثوابت إلى خطاب روحي وعقلي يصلح للتواصل مع الأجيال الجديدة التي لم تعد تتقبّل ما قبلته أنت لمجرد أنك ورثته ولم تناقشه. وفي النهاية يا سيدي.. لو إنت شايف إن كل الكلام اللي أنا باقوله ده غلط وإن إحنا بلد متديّن بطبعه، وإن إيرادات فيلم "شارع الهرم" وترتيبنا المتقدّم في البحث عن الجنس على الإنترنت وحفلات التحرش الجماعي كل عيد ما هي إلا مظاهر استثنائية ولا تعكس طبيعة المجتمع. وأن نجاح الأحزاب الإسلامية يعكس مستوى إيماننا. حقك عليّ!! أنا آسف أني أزعجتك، خلّليني أسحب كل كلمة قلتها.. إحنا فعلا شعب متديّن، وماعندناش مشكلة دعوة، ومافيش ولا واحد ملحد في التسعين مليون وكل واحد فينا الإيمان هينط من عينه؟ استريحت؟!!