كتبت من قبل أن المصريين أمامهم طريقان كبيران رئيسيان إما أن نلعبها "أوروبا" أو أن نلعبها "أمريكا".. وأرجو التمهل معي قليلا في توضيح الأمر.. مارجريت تاتشر لها مقولة ذات دلالة مهمة في مقامنا هذا: "التاريخ صنع أوروبا، والفلسفة صنعت الولاياتالمتحدة". مضمون العبارة يقول إن أوروبا انتهت إلى ما انتهت إليه بسبب كمّ مهول من الصراعات والحروب والخلافات والتي بدا معها كل طرف، وكل دولة، وكل ملك، وكل كنيسة، يسعى إلى تحقيق مصلحته فقط، إلى أن وصلوا إلى وضع وجدوا فيه أنهم في حالة من الانتحار الجماعي؛ بسبب الصراع على الأرض والموارد والقوة.. حروب تستمر سنوات طوالا وتنتهي بقتل وتشريد وجرح الملايين من أجل ماذا؟ من أجل الحدود السياسية التي تقسّم الأرض والموارد.. إذن الحل: إلغاء الحدود سيضمن تقاسم الأرض والموارد.. الكلام نفسه يقال بشأن الدور السلبي للكنيسة في أوروبا في تبرير الاستبداد واندلاع الحروب. أما بشأن الولاياتالمتحدةالأمريكية، فقد كانت الصراعات فيها أقل (رغما عن وجود جانب منها) ذلك أن من حكموها جمعوا بين الفلسفة (أي حب الحكمة)، والقوة، في نمط أقرب إلى ما حلم به أفلاطون حين بشّر بفكرة "الملك الفيلسوف" أي ذلك الشخص الذي يجمع بين القوة والحكمة.. اجتمع هؤلاء الآباء المؤسسون المنتخبون الخمسة والخمسون في فيلادلفيا سنة 1787 ليضعوا الدستور الذي لم يزل قائما حتى الآن مع تعديلاته السبعة والعشرين.. وقد ابتكروا الكثير من الأفكار وضمّنوها في دستورهم مثل فكرة الفيدرالية وفكرة المجمع الانتخابي وغيرهما. مقولة مارجريت تاتشر مفيدة لنا؛ فهي تقول لمن هم في مثل حالتنا إن علينا أن نختار إما طريق أوروبا (بصراعاته وخبطه وتخبيطه) إلى أن نتعلم كيف نعيش سويا باحترام للآخرين وبحقهم في أن يكونوا شركاء بحقوق متساوية، أو طريقة أمريكا بدرجة أعلى من الاجتماع والنقاش والتحوّط لما قد يأتي به المستقبل من مشاكل وصراعات وإيجاد حلول ومشاكل لها بعدم تغليب الصالح الخاص على العام، وما هو حالي على ما هو طويل الأمد.. لا شك أن لأمريكا نصيبها من العنف والصراع، ولكنه قطعا أقل كثيرا مما كان متوقعا. الرسالة الأساسية لهذا المقال هي أن أهل الرأي والفكر والسياسة في مصر عليهم أن يكونوا على وعي بأن الصراع والتطاحن والشطط الذي يسيطر على بعضنا قد يجعلنا نتحاكم إلى العنف المفضي إلى الدماء، وهو الطريق الذي اختارته أوروبا، وعاشت فيه لسنوات. إذن المطلوب الكثير من الحوار والاستعانة بأهل العلم والخبرة والفلسفة والتفكير العقلاني المتوازن، وعدم الاستجابة لأهل الشطط والمبالغة والتصعيد والإقصاء.. لا تمجيد لأحد أو انتقاص من أهلية أحد، وإنما لا بد أن نتعلم من تجارب الآخرين.. ولا بد أن نجعل مناسبة كتابة دستورنا فرصة للتوافق الذي لا يعني الإجماع، وإنما يعني الخلاف المتحضر. هناك مجتمعات شهدت عقودا من الحروب الأهلية بين فصائلها المختلفة، ثم خمدت نيران الحرب، وابتكروا آليات للتعايش والوصول إلى حلول وسط، وهذا هو دور غير المنتمين حزبيا أو تنظيميا لأي من الفصيلتين باختراع وابتداع أفكار جديدة تستجيب لمخاوف الطرفين.. مصر ليست بعيدة عن ذلك، وسننجز المطلوب بإذن الله. نشر بجريدة الوطن