كان دائما يريد أن يكون صوت الفقراء في بلاده، وقد حقق حلمه واستطاع فعلا أن يكون صوت الفقراء، بل والأكثر من ذلك أنه حوّلهم لمثقفين إلا أنهم مثقفون من نوع خاص تنحصر ثقافتهم في حب شاعرهم الأسمر، والذي يعرف كيف ينتقي كلماته من طين الأرض ليعزف بها على أوجاع الناس البسطاء وآلامهم وقلوبهم، إنه الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي الذي يتحدث معنا في وصلة دردشة إنسانية من منفاه الاختياري بالإسماعيلية وفي الجوار صوت خافت للراديو وهو يذيع السيرة الهلالية والتي بدأت دردشتنا من عندها. منذ شهر تقريبا وأنت تقدم السيرة الهلالية في الإذاعة كل يوم.. فمن جمهورها الآن من وجهة نظرك؟ كل الناس.. أنا حتى العام قبل الماضي كنت أقدم السيرة الهلالية كل يوم في رمضان في بيت السحيمي وكنت أتعجب عندما أرى الناس من مختلف الفئات والأعمار تأتي لتستمع إليها من كل مكان، ونفس الشيء حدث معي هذا العام تحديدا وأنا أرويها للإذاعة كل يوم في رمضان، وأظن أن السبب في ذلك بعد روعة السيرة الهلالية طبعا هو هذه الصلة الحميمة التي تربطني بالناس، وهذا ليس في مصر فقط؛ ولكن على مستوى الوطن العربي كله؛ لدرجة أنهم أحيانا يصفونني في السودان بأنني الشاعر السوداني الكبير الذي ضلّ طريقه إلى القاهرة؛ لذلك أنا دائما ما أقول لنفسي أن حب الناس هو أجمل شيء طلعت به من الدنيا يمكن لأني لست شاعرا عاديا فقط؛ وإنما بعض الناس وصفني كباحث في الأدب الشعبي والسيرة الهلالية والبعض الآخر وصفني كمتحدث وهذا يكفيني. نحن شعوب نميل إلى القصص والروايات الدينية بطبعنا وأتصور أن سبب ارتباط الناس بالسيرة الهلالية هو أنها تحمل النفحة الإيمانية أو الدينية.. لا شك أن هذا الكلام به جزء كبير من الحقيقة؛ لأن السيرة الهلالية وكل السير التي رويت بعد سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام تحمل ذلك الطابع الديني ومن هنا كان طبيعيا أن يكون هناك شيء يربط بين أبو زيد الهلالي وآل البيت وهذا ما ربط الناس بها خاصة في الريف والقرى. أنا أذكر أننا أول ما بدأنا نرويها في الإذاعة أنا وعم جابر أو حسين وسيد الضوي وصلني خطاب من رجل بالصعيد يقول فيه ربنا يخليك يا عم عبد الرحمن يا أبنودي ده أنا باعمل 40 كوباية شاي كل يوم لضيوفي وإحنا بنسمعك. لماذا اخترت الإسماعيلية تحديدا لتستقر فيها الآن؟ أنا تعبان منذ فترة طويلة وصدري خلاص لم بعد يستطيع تحمل تلوث القاهرة وزمامها وضجيجها، وقد اخترت الإسماعيلية لعدة أسباب أهمها: علاقتي من زمان بقناة السويس وأهلها لذلك اشتريت فداناً ونصف من أرض فيها منذ فترة طويلة، وبدأت أزرعها حتة حتة، والحقيقة أن فيه مقولة قديمة تقال عن الصعايدة وهي أن أيديهم خضراء يعني يزرعون الصحراء فيحوّلونها جناين وده اللي حصل معايا بالضبط وكمان أختي عايشة هناك هي وأولادها يعني الحكاية في بيتها. تجربة المرض تجربة مؤلمة.. فكيف تعاملت معها؟ المرض عندما يتحول لشيء مزمن فيجب أن نتعامل معه كصديق يلازمنا في كل لحظة في حياتنا؛ لذلك أنا قررت أن أصاحبه وعشت التجربة بكل آلامها حتى في اللحظات التي كنت أشعر أنها تدفعني إلى النهاية لم أحزن ولم تتغير رؤيتي للحياة. بالعكس كنت أضحك وأسخر منها؛ لأني في هذه اللحظات فقط وجدت فرصة رائعة لمراجعة النفس والبحث في هذه الرحلة الطويلة عن الأشياء التي سأتركها لتعيش من بعدي، والأهم من ذلك أني رأيت الأشياء على حقيقتها، ووصلت إلى أن معظم الحاجات التي نظل نلهث وراءها طوال حياتنا لا معنى لها، ولكننا للأسف لا نتعلم ذلك أو نراه إلا في نهاية الرحلة. وإيه أحلى حاجة شفتها الآن؟ الناس.. صدقيني الناس هم أجمل حاجة ممكن نطلع بيها من هذه الرحلة الطويلة. مين صحبتك الآن؟ أنا تقريبا لا أترك الإسماعيلية نهائيا لذلك فصحبتي الأساسية هنا هي عم محمد وعم عبد الناصر، هما الاثنان مزارعان مستأجران لأرض جانب أرضي، وكل واحد فيهما بيته على رأس غيطه يعيشان هنا في سلام وهدوء، وعادة كل يوم يقضيان أغلب وقتهما معي وبييجي ناس كتير من مصر يزوروني. وهل تتابع الحال في مصر؟ أكيد طبعا يا بنتي مصر دي مش بلدنا وبس، دي حتة من قلب كل واحد فينا يعني طبيعي إني أتابعها وأعرف أخبارها أولا بأول. وكيف ترى حالها الآن؟ لا أريد أن أقول كلام يوجعني ويوجع الناس معايا خاصة أنكم موقع على الإنترنت دي زي ما بتقولي يعني معظم اللي هيقرأوا كلامي هذا شباب، علشان كده مش لازم أحبطهم؛ بس الحقيقة إن الحكاية محبطة بجد ومحتاجة مجهود كبير جدا من الكل علشان نقدر نمرّ من المرحلة الحرجة التي نعيشها الآن. رأيك هذا هو رأي الشاعر المثقف ولا المواطن البسيط عبد الرحمن الأبنودي؟ لا طبعا رأي المواطن البسيط أما حكاية المثقف هذه؛ فلا معنى لها الآن لأني قاطعت المثقفين من زمان. هل ترى أن المثقفين في مأزق؟ ليس المثقفون وحدهم إنما الكل في مأزق، والسبب أن الدولة والنظام فهموا الناس جيدا، وتقدري: تقولي عرفوا آخرهم يعني؛ حتى لو مثقف ولا حتى كل المثقفين قرروا يقوموا بانتفاضة؛ فهي محاولة خايبة؛ لأن الدولة تعرف آخرها، والسبب في ذلك أن العلاقة بين المثقفين والدولة من البداية لم تنشأ نشأة صحيحة؛ فلا الدولة بَنَت علاقة جيدة معهم ولا هم فهموا دورهم في المجتمع. هل حقيقي أنك قلت إن فاروق حسني أدخل المثقفين حظيرة الدولة؟ غير صحيح على الإطلاق، أنا لم أقل ذلك وإنما قلت إن المثقفين هم الذين دخلوا الحظيرة بأرجلهم، أما فاروق حسني فهو لا يمتلك حظيرة ليدخلهم فيها. ولكنك لك موقف من ترشيحه لليونسكو؟ الموقف ليس من الترشيح ولكن من الكلام الذي قاله عن التطبيع لصحيفة "اللوموند" الفرنسية؛ لأننا كنا "مستجدعينه" جدا كمثقفين عندما أخذ موقفا واضحا من التطبيع، ولكن ما قاله لهذه الصحيفة كان مفاجأة مؤلمة؛ خاصة عندما اعتذر عن حرق الكتب العبرية، يا سلام طيب ما همّا حرقوا فلسطين كلها، إيه المشكلة بقى لما نحرق لهم شوية كتب؟ فاليونسكو لا تستحق كل هذا العناء، وهو فعلا عناء؛ لأن المنصب في النهاية منصب فردي لا يستحق تغيير المواقف لذلك، أنا زعلان من فاروق حسني جدا. حضرتك عارف إن فيه شباب مصريين الآن يعملون في إسرائيل؟ للأسف عارف.. وما رأيك فيهم؟ هؤلاء شباب بلا ثقافة ولا هوية ولا حتى مستقبل، لكن حتى لا نظلمهم ولا نكون نحن والزمن عليهم فلابد أن ننظر أولا للأسباب التي دفعتهم لذلك، فالجوع كافر وهم شباب شعروا أنه لا أمل في بلدهم لا لزواج ولا وظيفة ولا علاج ولا حتى تعليم، وأيقنوا أن المجتمع والدولة كفروا بهم، ففرّوا إلى مجتمع الكفار على حق فربما يجدون عندهم ما فقدوه في بلادهم، وأنا لا أبرر ذهابهم؛ ولكن أصف الواقع في بلد غابت فيه فكرة الوطنية وأصبح الانتماء كلمة بلا معنى. هل خذلك الشعر الآن؟ لا الآن ولا زمان الشعر ممكن يهرب مني؛ ولم يخذلني أبداً حتى في الفترات الصعبة التي مرت عليّ في حياتي فقد ظللت مدة ثلاث سنوات دون أن أكتب قصيدة واحدة؛ ولكن كنت أحتاج وقتاً حتى أتصالح مع نفسي، وهذا لم يحدث إلا عندما هاودني القلم مرة أخرى. كلنا نمر بلحظات نفقد فيها القدرة على عمل أي شيء.. فبماذا تنصحنا؟ المقاومة وعدم الاستسلام لهذه الحالة يجعل الإنسان مع الوقت يسعد بها ويميل للشعور بأنه ضحية، وهذا غير حقيقي لأن أي لحظة ألم ووجع نمر بها نكون نحن أيضا شركاء فيها وساعدنا من تسبب لنا فيها على ذلك؛ حتى دون أن نشعر بذلك، لذلك لابد أن ننتظر حتى يهدأ الألم ونقوم لننفض إحساسنا ومشاعرنا منه ونلملم أنفسنا مرة أخرى، والأهم من ذلك نتعلم الدرس؛ لأننا حتى عندما نخسر لابد ألا نخسر الدرس الذي تعلمناه. كيف تعيش يومك الآن؟ ما بين قراءة الأشياء الثقيلة التي لم تمكني حياتي الأزهرية منها والزراعة والتأمل والاستماع لصوت العصافير.