عام ونصف العام من العذاب والحرب النفسية وحرق الأعصاب، كنّا فيها أعداءً لأنفسنا في المقام الأول قبل باقي قوى الشر، حين سلّمنا عقولنا وحواسنا لرأس الأفعى الإعلامية حتى تتلاعب بنا وتبثّ في أذهاننا وقلوبنا سمّها الزعاف. عام ونصف ارتدى فيها المنافقون وحملة مباخر الرئيس المخلوع ولاعقو بيادات المجلس العسكري، ثوب الثوار، ونصبوا أنفسهم متحدّثين رسميين باسم الشعب وثورته، ليربحوا من دماء الشهداء والمصابين أضعاف ما ربحوه من تأييدهم وحشدهم لتوريث مصر وشعبها لجمال مبارك، وخلط الحقائق وتزييف الوعي لتأليه مبارك وتصديره للجموع باعتباره الحكيم العادل القوي المنزّه عن الخطأ (حاشا لله). عام ونصف العام استطاعوا فيها قلب الآية وتبديل المشهد، ليظهر الخائن شريفا.. والثائر مخرّبا.. والجاهل عالما.. والعالم مدعيا. واليوم.. في غمار احتفالات الشعب بوصول أوّل رئيس مدني إلى القصر الجمهوري -مع كامل احترامي لمن صوّتوا للفريق شفيق؛ لأنني ضد الشماتة وتمزيق الصف بالمزيد من موجات الغضب والكراهية والتخوين- علينا أن ندرك جميعا أن رأس الأفعى ما زالت حية تتحين الفرص لضخ المزيد من سمومها وكراهيتها، حتى تحافظ على مصالحها والبقاء على وجودها، دون أن تخجل من سقوط الأقنعة وانكشاف وجهها القبيح، خصوصا أن لديها العديد من الأقنعة الجديدة التي تناسب المرحلة الحالية، بالإضافة إلى أن قطاعا كبيرا من الشعب لم يتخلّص بعدُ من الأمية والجهل وانعدام الوعي. ولأن نظام مبارك صنع صفوة مزيّفة من السفهاء وبائعي الشرف وأنصاف الموهوبين ومدّعي الثقافة؛ ليوطدوا سلطانه ويمدحوا مميزاته المزعومة وفضائله الكاذبة، لجأ بعض الثوار إلى قوائم العار السوداء لفضح المنافقين وأعداء الثورة من مشاهير المجتمع في شتى المجالات؛ سواء الوسط الفني أو الرياضي أو الإعلامي، فإذا ببعض مشاهير قوائم العار يجد بعد وضعه في هذه القوائم فرص عمل أكثر، ويتلقّى عروضا مالية أكبر، ويحقق بكراهية بعض الثوار له نجاحا ما كان ليحلم به، لذا فتطهير الإعلام والفن لن يأتي بالمزيد من قوائم العار التي استحق بعضهم الانضمام إليها بجدارة بعد إطلاق تصريحاته المريضة مؤخرا، وعمل مداخلات تليفونية مستفزة، ولكن التطهير يكون بسلاح أكبر وأهم بكثير متمثّلا في دعم الإعلام الحقيقي والفن الراقي. نعم هناك قنوات فضائية منافقة ومأجورة، وصحف ومجلات تجرّدت من ميثاق العمل الصحفي والأخلاقي، وأشباه فنانين ومنتجين صدروا الهلس والإسفاف لتغييب الوعي والحفاظ على استمرارية مكاسبهم، لكن كبت الحريات وقصف الأقلام واعتماد سياسة المنع والمصادرة بحجة حماية المجتمع والشعب سيجعل من هؤلاء ضحايا يلتفّ حولهم الجمهور، وتؤكّد مزاعم البعض وتخوفاتهم من الحكم الإخواني بصفة خاصة أو الإسلامي بصفة عامة باعتباره معاديا للإبداع والمعارضة، فلماذا بدلا من إضاعة الوقت والجهد في التصدّي لهؤلاء لا نقدّم للجمهور النموذج الذي ننادي به ونتمنّاه، ولنرى بعدها الجمهور نفسه وهو يعرض عن هؤلاء بعد أن يسترد وعيه وثقافته، ويمتلك القدرة على التفرقة بين السمين والغث. فمثلما تجاهل الإخوان كل موجات التخوين والمعارضة، ولم يلتفتوا إلى الاتهامات التي يردّدها خصومهم ضدهم ليلا ونهارا، وعملوا في صمت للوصول للناس وشرح أفكارهم ومبادئهم، بالمثل يمكن للرئيس الجديد دكتور محمد مرسي أن يستردّ إعلامنا الرسمي الحكومي متمثّلا في القنوات الأرضية والفضائية، والإذاعات الحكومية المتنوعة والصحف القومية، وإقصاء جميع القيادات الفاشلة التي دمّرت شرف المهنة وأضاعت ريادتنا الإعلامية وحوّلت إعلامنا إلى عزبة تجني من ورائها الملايين وترمي لباقي العاملين بالفتات، وإحلال الكفاءات المستنيرة، وإعداد وتأهيل كوادر جديدة، مع وضع ميثاق عمل إعلامي يقرّره ويشرف عليه أساتذة الإعلام المحترمين بعد إعادة هيكلتها، حتى نرتقي بالمحتوى الإعلامي الرسمي الموجّه للجمهور، وتحريره في نفس الوقت من توجيهات الرئيس، وإجباره على عدم الاهتمام بتجميل صورته على حساب الحقيقة، حتى لا نعيد الكرة ويحجم الناس عن الإعلام الحكومي المملوك لهم أصلا، باعتباره أداة منافقة فاقدة للمصداقية والمهنية وتصنع فرعونا جديدا، وحينها يصبح الإعلام الرسمي المملوك للدولة معبّرا حقا وصدقا عن آراء وتوجهات الشعب، خصوصا حين ينقل شكواهم وآلامهم من الشارع إلى الشاشات وموجات الأثير وصفحات الصحف والمجلات مباشرة دون مونتاج أو تغيير، ويدخل إلى كل مؤسسات ومرافق الدولة ووزارتها دون إذن لينقل الحقيقة كاملة من قلب الحدث وخلف الكواليس دون مجاملة، حتى يفهم المواطن ما يحدث حوله في دولته وليست دولة السيد الرئيس. وبالمثل تنتج الدولة الأعمال الفنية الراقية في السينما والمسرح والدراما، بعد أن تعطي الفرصة لجيل كامل تم دفنه وهو على قيد الحياة من الموهوبين في التأليف والتمثيل والإخراج، ليشاهد الجمهور فنا حقيقيا ثمينا يرتقي بأذهانهم وينهض بوعيهم، ووجوها جديدة من المبدعين غير الوجوه التي لم يجدوا يوما غيرها. وفي الوقت نفسه الضرب بيد من حديد على كل من ينصب نفسه قاضيا وجلادا ويريد أن يقتحم الاستديوهات ومواقع التصوير بحجة أن المشهد الذي يتمّ تمثيله لا يليق، أو بحجة محاربة المنكر وتغييره، ما دام أن فريق العمل قد حصل على الأوراق والتصريحات القانونية للتصوير من الجهات المختصة في الدولة. والخلاصة التي أكرّرها هي أن نحارب الإعلام الكاذب والفن المبتذل بتقديم النموذج الإيجابي الذي تكرّس له الدولة جهدها وطاقتها، بدلا من الاهتمام بمنع ومناقشة النموذج السلبي الذي نريد أن نحمي الجمهور منه، بنفس منطق كتاب "السر" الذي يدعوك لعمل تظاهرات تنادي بالسلام بدلا من حشد تظاهرات ضد الحروب؛ فرغم أن الهدف واحد إلا أن دعم المعنى الإيجابي يصرف الأنظار نحو الإيجابية، ومحاربة المعنى السلبي يوجّه العقول نحو السلبية. عندها ستموت أفعى الفساد التي تتغذّى على غياب الحقيقة والوعي، بعد أن يتحوّل الجماهير إلى حراس يدافعون بشراسة عن عقولها ضد سلبها أو اختطافها مرة أخرى.