بداية أعترف أنني متشائم سيقول قائل: ولمَ وقد حصلت مصر على رئيس أخيرا، ويمكن أخيرا لعجلة التقدم والتنمية أن تدور؟ وجوابي أن الأمر ليس بهذه البساطة أبدا؛ فالرئيس القادم أيا كان سيكون أمامه تحديات كبرى، وملفات عديدة عليه أن يفتحها حتى يثبت أنه جدير بقيادة هذا البلد. سيقول نفس القائل: وهذا ما نراه في محمد مرسي كرئيس للجمهورية. وبغض النظر عن كونه رئيسا لم يتم حسمه حتى الآن؛ إذ أننا تعلمنا في الأشهر الماضية أن الأحداث الجديدة تستغرق ثوانٍ معدودة حتى تحدث، وبالتالي فيمكن أن يحدث ما لا يخطر على بالك أصلا، لكن هذا المقال مبني على فرضية -قد يؤكّدها البعض ويتعامل على أنها واقع لا جدال فيه.. فليكن- أن الرئيس القادم هو محمد مرسي. من ضمن أسباب التشاؤم أنني لا أثق في الإخوان.. لقد كنتُ أحملُ تقديرا خاصا لهم أيام كانوا فيها ينعتون ب"الجماعة المحظورة"؛ بسبب الظلم الواقع عليهم، وسجنهم وتشريد أهاليهم، وكنتُ أجد أنه من العدل أن تُتاح لهم فرصة مزاولة نشاطهم السياسي، مثلهم مثل أي فصيل سياسي آخر، حتى إذا أتيح هذا ودخلوا البرلمان من أوسع أبوابه إذ بنا نرى العجب العجاب. نرى موضوعات سخيفة تُناقش بحمية وحماسة؛ وكأن مصير البلد متوقف عليها، بينما قضايا الساعة يُغضّ الطرف عنها، ولا يوجد أثر لها تحت قبة المجلس، وكأن هذا الأخير موجود بكوكب آخر لا علاقة له بنا من قريب أو بعيد. الدكتور سعد الكتاتني -مع بالغ احترامي- كنتُ أشعر بالضيق من حدّته وتعامله مع الأعضاء دون أن يستمع إليهم، وتلك المناقشات الهلامية التي تحدث أمامنا؛ حتى قال البعض إنه أشبه بمجلس كارتون لا يمثل ثقلا حقيقيا. وما زلت أتذكر -وليس مطلوبا أن ننسى- تصفيقهم عندما اتهم الدكتور محمد البرادعي بالعمالة، وكنت أرغب في أن يتعاملوا مع الموقف بحيادية وعدل -بما أنهم صاروا من حماته- كل هذا لم يحدث، وهُتك عرض الرجل وسط أجواء الاستحسان والتصفيق. لم ينهض أحد منهم ليعترض وليطالب القائل بالدليل؛ بل تعاملوا مع الأمر وكأنه واجب وطني، وكأن البرادعي عدو خطير، مع أن ديننا -بما أنهم من دعاته- يعلمنا أن نكون عادلين حتى مع أعدائنا، والمخالفين لنا، فما بالنا بشخصية وطنية مرموقة لها مواقفها المشرفة؟! قد يقول القائل: إن الشعب قد اختار محمد مرسي وهو سيحكم دون التقيد بحزبه.. وهو كلام غير منطقي. هل من المفترض أن نحلم أن يكون الرئيس القادم شخصية فعّالة دون أن ترتبط بقوى ما، يمكن أن نسميها "قوى التوازن"؟ حتى رؤساء أمريكا يدركون أن أصوات المرشحين -بما فيها أصوات الأقليات والطوائف- وأموال رجال الأعمال وغيرها هي الأشياء التي تحدد مصيره وفترة حكمه. جمال عبد الناصر لم يكن شخصية حرة؛ فقد كان يعاني قوى داخلية وخارجية، والرئيس السابق مبارك كانت حاشيته قوة أخرى في البلاط الجمهوري تصنع العديد من القرارات التي أثرت سلبا على الشعب وأوردتهم موارد التهلكة. إذن فلا يوجد رئيس متحرر من أثقال القوى، المهم أن تكون هذه الأخيرة متوازنة بشكل يسمح بظهور كل الألوان في نسيج الشعب، فإذا حاول حزب أن يستأثر بخيرات الوطن؛ تكتلت البقية لإضعافه وإسقاطه ولا كرامة. ليس من المطلوب أن يتخلى محمد مرسي عن حزبه فهو مَن ساعده، وصنع له سلسلة بشرية عجيبة من الإسكندرية إلى أسوان، وهو مَن صرف على حملته مبالغ خرافية.. فهل يُطلب من الرجل أن يتبرأ من حزبه؟ كلام غير معقول.. المطلوب ألا يتحول الحزب إلى حزب وطني آخر، يغرس ممصاته في المراكز المهمة في البلد؛ فهنا تنشأ قوي الظلام. الفارق هنا أن هذا الحزب -لو تكّون بالفعل- لو حاربته كحزب سياسي له ما له وعليه ما عليه؛ ستجد من يرفع عقيرته بالصياح أنك ضد الدين، وأنك علماني، وأن قلبك خرب عششّ فيه الشيطان وأفرخ. على عادة من يهاجمون لمجرد الهجوم، وحتى دون أن يكلفوا أنفسهم بالسماع والقراءة جيدا، حتى دون أن يكترثوا بتهمة "ضيق الأفق". وآخر قد يقول إن فلان رجل تقي ومؤمن، وزبيبة الصلاة تحتل نصف جبهته.. ومع احترامي لتقواه، ومع دعواتي له بأن يقول من المقبولين عند الله؛ لكن هذا لا يعنيني في شيء عندما يتعلق الأمر بمصلحة البلد. لا يهمني أن يكون الرئيس تقيا يصلي لله ألف ركعة؛ لكن يهمني أن يرفع الأثقال عن كاهل الشعب المتعب، ولا يهمني أن يكون خاشعا في صلاة الأعياد والكاميرات تركز على وجهه؛ لكن يهمني أن يعطي لكل ذي حق حقه، وألا يُسجن أحد ظلما، وألا تُنهب خيرات البلد. تابعتُ فرح الفرحين بصعود محمد مرسي، والزغاريد التي انطلقت مدّوية، ثم قرأتُ عن النية لحلف اليمين في ميدان التحرير، وهي لفتة ذكية، وكأنها تؤكّد أنه جاء بقبول شعبي وجماهيري، ولا بأس.. ولكن.. هل أخبركم كيف يُصنع الطواغيت والفراعنة؟ بهذه الأشياء.. الهتاف المدوّي، المليء حماسة من أناس طيبين، يظنون أن الأمور قد صارت للأفضل. مشكلتنا -كشعب وكأمة- أننا متطرفون.. أقصى اليمين أو أقصى الشمال.. نحب بعنف، ونكره بعنف، وننسى بعنف أيضا! لقد هتفت الجماهير بحياة جمال عبد الناصر وتناسوا أنه حبس محمد نجيب -أول رئيس لمصر- وحدد إقامته حتى مات مكتئبا حزينا وحيدا، وتناسوا أنه فتح المعتقلات، وأممّ المصانع ليموت أصحابها حسرة. وإلى اليوم تجد مَن يعلِق صوره، ويتعامل معه على أنه الرئيس الخالد. هناك مَن يترحمون على السادات وأيامه، والآن تجد من يمصمص شفتيه على أيام مبارك. أتذكر أوبريت "اخترناه" والذي تمّ حشد كوكبة من النجوم، وحضره مبارك وكنت وقتها مبهورا بالكلمات واللحن، وشعرتُ بالتأثر من شخصية مبارك العظيمة، وقد خُيّل إليّ أنه يوشك على أن ينبت له جناحان في ظهره. مع الأسف لا نتمتع بذاقة النقد. لا بد أن نكفّ عن المجاملة، وعن تصديق أنفسنا، والبحث عن كبير نمشي وراءه، ونتبعه مسلوبي الإرادة. الرئيس بشر مثلي ومثلك، يضحك ويبكي، ويمرض، ويُصاب الإمساك، وليست ذاته مقدسة، وليس من أنصاف الآلهة، إن أصاب احتفينا به، وإن أخطأ عاملناه بحزم دون تردد. لهذه الأسباب وتلك أري أن نتروى في فرحنا العارم هذا. فلنتعلم أن الانفعالات الجارفة، وتقديس الأشخاص، والسير وراء القادة دون أن نتساءل، ونحلل، ونرفع صوتنا بالصراخ والاعتراض تصنع قوى شر جديدة. وهذا ما لا نريده لوطننا الذي يقف الآن على الحافة..