الإعلام يصنع واقعا جديدا ويغيّر معاني كثيرة.. تذكّر أننا كنا نتشبّث بوصف "الثورة" في مواجهة توصيفات "الانتفاضة" أو "الحركة" أو "الأحداث" أيام الثورة العظيمة التي قام بها الشعب المصري.. لاحظ أننا كان يفرق معنا كثيرا أيامها أن نقول "مليونية" أو "آلاف المشاركين" أو "عشرات الآلاف" أو "مئات الآلاف".. فكل مصطلح من هؤلاء يفرق الكثير في المدلول، ويترك تأثيرا مختلفا على المتلقي.. وما زلت كمتابع للإعلام تلتقط أذني عبارات مستهدفة (بنية الخبث أو الجهل) تغيّر وجهة السفينة كلها، ولكننا صرنا نرددها دون وعي وربما يرددها البعض متعمدا إحداث تأثير نفسي موجّه على المتلقي.. الإسلام في مواجهة المدنية أكثر هذه العبارات شيوعا في أوساط الرأي والتحليل الموجّه في هذه الأثناء هي عبارة: "التيارات الإسلامية / التيارات المدنية"، وضْع الإسلام في مواجهة المدنية خلط فاحش، يدل على سوء نية واضح.. فمن قال إن التيارات الإسلامية تنادي بشيء غير الذي تنادي به التيارات الأخرى، الجميع يتفق على دولة مدنية حديثة.. والإسلام في حد ذاته جلب المدنية للعالم، مصطلح المدنية يقابله مصطلح العسكرية.. ولا مواجهة بين التيارات الإسلامية والمدنية بأي حال.. الخلط الآخر في هذه العبارة هو إضفاء صيغة وحدة مزعومة على ما سوى التيارات الإسلامية، فحسب المقولة نجد أن التيار الليبرالي والتيار الاشتراكي والقومي، ومختلف الحركات الثورية على اختلاف توجّهاتها تشترك معا في مسمى التيارات المدنية، وهذا غير صحيح.. إن دل على شيء فلا يدل بحال على المدنية في ذاتها بل يدل على رغبة في التوحد ضد التيارات الإسلامية، تحت أي صيغة، ولكن هل يقبل أحد هذه التيارات التوحد مع غيره من التيارات في الظروف الطبيعية، إذا كنا في وقت انتخابي حاسم ولا يوجد مرشح يريد أن يتنازل لغيره حتى لا تتفتت الأصوات، حتى التيارات الإسلامية نفسها لم تقبل التوافق الداخلي، فهل يُعقل أن نتحدث كتيارات مدنية في مواجهة تيارات إسلامية لها مرجعية واحدة؟ الثوار في مواجهة الإخوان التعبير الآخر الذي لا يخلو من تعمّد تشويه واضح هو تعبير "الثوار / الإخوان"، فمن هم الثوار ومن هم الإخوان؟ وكيف يفرّق العالم الحكيم بين الاثنين؟ إلا إذا لجأ إلى معايير مغلوطة تلوي أعناق الحقائق ليصل إلى نتيجة يراها هو فقط.. كيف يفرّق منطق بين شباب وشباب خرجوا ينادون بإسقاط نظام ارتكب كل الآثام على الكل؟ ولم يرع إلّاً ولا ذمة في إخواني ولا ليبرالي (الحقيقة أن الليبراليين تمتعوا ببعض الحرية في النظام السابق) ولا شابا لم يتزوج ولم يجد فرصة عمل ولم يجد من يحترم رأيه.. الجميع ثار ضد الظلم والجميع فرض إرادته على الطغيان.. التقسيم بين الثوار والإخوان يعتمد أصحابه على عدة أسباب نذكرها ونفندها في التالي: 1- الإخوان أهانوا الثوار في محمد محمود ومجلس الوزراء ووصفوهم بالبلطجة: وهذا قول يحتاج إلى كثير من التروي والتحليل قبل أن نلقيه تهمة نخوّن بها فصيلا وطنيا؛ فالإخوان لم يتهموا المتظاهرين بالبلطجة، بل شرحوا بناء على معلومات موثقة خطة واضحة محكمة مدبرة من الداخلية بإشعال الأحداث في محمد محمود ومن بعده مجلس الوزراء، واستخدموا في سبيل ذلك بلطجية، وتعمّدوا استفزاز المتظاهرين لإفساد العملية الانتخابية التي ستؤسس لاستقرار حقيقي.. لذا كانت خطة الإخوان هي التصعيد لكن عدم الوصول إلى مرحلة الانفجار.. 2- الإخوان واجهوا الثوار أمام مجلس الشعب، واتهموهم بمحاولة إحراق المجلس في الواقعة المشهورة: والحقيقة أن الإخوان كان يُدعى عليهم قبلها بأيام فوق كوبري قصر النيل، وضُرِبوا بالأحذية وبُصِق على وجوههم في ميدان التحرير في ذكرى الثورة، وكانت هناك حالة من الاحتقان خرجت على إثرها العديد من الدعوات لاقتحام مجلس الشعب، ولذا كان توقّع الإخوان لعمليات تخريب منطقيا، فكانت حشود شباب الإخوان حلا سلميا سينهي الاحتجاج أمام المجلس دون تخريب.. وهو ما كان.. 3- مجلس الشعب ليس على مستوى الثورة، بل انشغل بالتفاهات، والحقيقة أن أداء مجلس الشعب لا يعبّر مطلقا عن أداء حزب الحرية والعدالة، ومن الظلم أن ننسب بطأه وقلة حيلته إلى رغبة الإخوان في ذلك.. الإخوان ليسوا أغلبية في المجلس -وإن كانوا أكثرية لكن بما لا يتيح لهم فرض إرادتهم- وليس لهم إلا حق التعطيل، والمجلس العسكري نجح في نزع فتيل التأثير من مجلس الشعب، والتهدئة على كل الأصعدة كانت مطلوبة لحين استكمال عملية تسليم السلطة بكاملها، لذا كانت تحركات الإخوان داخل المجلس هادئة متزنة تميل إلى الاستقرار لا مزيد من التصعيد.. هي خطة قد تتفق معها وقد تختلف، ولكنها في النهاية توجّه سياسي للإخوان الذين لن يضربوك على يدك لتقبل بهم.. لا يحقّ لكائن من كان أن ينفي عن الإخوان شرف الثورية، ولا ينكر إلا جاحد مشاركة الإخوان في الثورة ومن أول يوم.. والله.. مضحوك عليك! وكلمة أخيرة أوجّهها للشباب المثقف الذي يقرأ العناوين فقط ويشاهد المشاهير فقط: لا تفتح أذنك لكل قول، فهناك حرب مشروعات ممنهجة تستغلّ مشاعرك الثورية في تفتيت الوطن، أنت تفتح أذنك لليبرالي ليسخّنك على الإخواني فتراه عدوا لدودا، ولست أنت الرابح بل من يحرّضك ليكسب مشروعه على حساب فصيل وطني آخر يشوهه.. والإخواني كذلك ليس بريئا إلى حد السذاجة، بل يغذَّى طول الوقت بمشاعر وأفكار يكره على أساسها الفكر المخالف دون بصيرة.. كلانا يحتاج إلى إعادة توعية، وإلى نظرة محايدة.. ولا يأخذ بقول أحد التيارين في بعض لأن بينهما خصومة سياسية، فلم يُنصِّب أحد نفسه متحدثا باسم الثورة يحرم هذا ويفيض بنعمته على ذاك.. ومعظمها وجوه لم نرها إلا بعد أن سقط النظام واستقرّت الثورة، ومعظمها وسائل إعلام أسِّسَت بعد الثورة بأموال مشبوهة، ومُلاكها منتمون بشكل أو بآخر للنظام السابق؛ لتنفيذ خطة طويلة الأمد تقضي بتشويه الرموز الوطنية، وتيئيس الشعب من نجاح الثورة، وتحسين وضع أنصاف الفلول.. هذه حقيقة مشاهدة رأي عين لا تقبل الشك.. إذا كنت فعلا تقرأ العناوين فقط، وإذا كنت تقتنع بما يبثه أصحابك فقط على فيسبوك، فراجع نفسك ولا تُعطِ عقلك لأحد.. أرجوك.. كن صاحب استقلالية في الفكر والقرار..