من أصعب الأمور أن تكتب مقالا في هذا التوقيت الضبابي الذي تعيشه مصر؛ فسرعة الأحداث وانقلاباتها الدرامية من النقيض إلى النقيض لا تعطي أي شخص الترف والاستقراء القادم بصورة جيدة. ولكن إذا كانت الكتابة هي الأصعب الآن؛ فإن الكلام هو الأسهل بلا منازع، ففي مثل هذه الأجواء تكثر النظريات التي يضعها المصريون بأنفسهم؛ محاولين تفسير ما يحدث حولهم، فبعد قرار اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة باستبعاد عشرة مرشحين من السباق، وبعد إصدارها أمس (الأحد) أسباب استبعاد كل مرشح رسميا، وكذلك بعد بدء كل من المرشحين العشرة في تقديم تظلماتهم للجنة، وبدء حملاتهم في الترويج لصحة مواقفهم والتأكيد على سرعة عودتهم للسباق؛ بدأ الجميع في وضع نظريات المختلفة حول ما سيحدث في الأيام القليلة القادمة، وحول استبعاد العشرة من الأساس.. فهيا بنا نتجول قليلا في عقول المصريين.. ونرى كيف يفكرون؟؟ الحياة بقى لونها بمبي أول النظريات التي سنبدأ بها -تيمنا لكوننا في أعياد الربيع- أن الحياة بقى لونها بمبي، وأن عدالة السماء قد سقطت فوق جمهورية مصر العربية "لتعدل المايلة" هذه النظرية لن تجد لها أنصارا كثيرين بين النخبة والشباب المسيس؛ ولكن أغلب أنصارها ستجدهم من ربات البيوت والرجال فوق الخمسين، والمواطنين الكارهين للسياسية وسيرتها وأهلها والمتكلمين فيها. هؤلاء كانوا يشعرون في الأسبوع الماضي إنهم بين المطرقة والسندان والشاكوش أيضا في وضع لا يحسدون عليه، فكلما شاهدوا أنصار أبو إسماعيل في التلفاز وهم يتظاهرون ويهددون بالدم وعظائم الأمور في حال التأمر على مرشحهم، ثم يهرولون خلف سيارته فقط ليروا لمحه منه، وضع المواطنين أيديهم فوق قلوبهم رعبا، فما يروه لا يُعبّر لديهم إلا عن التطرف القاتل الذي سيجعل النساء ترتدي الخيام المتنقلة -وليس فقط النقاب- والرجال الرداء القصير وإطلاق اللحية، وسيلغون الحياة المدنية بكل ما فيها، هكذا فسّر المواطن من هذه الفئة هذه المظاهر وارتعب. في المقابل بمجرد أن يغيّر القناة ليجد أنصار حملة عمر سليمان وهم يتكلمون بكل ثقة، بينما يتكلم آخرون ممن حولهم عن تاريخه في التعذيب، وكونه ذراع الرئيس المخلوع اليمنى، وبالطبع فالنكت هي عامل مؤثر بشدّة في المصريون، ومع كم النكت التي أطلقت خلال الأسبوع السابق عن ما سيفعله عمر سليمان بالمصريين بعد توليه من تعذيب وتنكيل... إلخ وصلت الفكرة ببساطة لعقول هذه الشريحة؛ فأصبحت نظرتهم لسليمان وكأنه "جالك الموت يا تارك الصلاة". وإذا كان ما سبق هم المطرقة والسندان؛ فإن الشاكوش هو مرشح جماعة الإخوان المسلمين خيرت الشاطر فبالنسبة لهؤلاء -الذين اختار أغلبهم الإخوان بالفعل في الانتخابات البرلمانية- فالإخوان لم يفعلوا أي شيء في الفترة السابقة، والحياة ازدادت سوءا والأسعار في ارتفاع والسلع شحيحة، والأمن غير مستتب، والفكرة المستقرة الآن في أذهانهم أن الإخوان يريدون "التكويش" على كل شيء. ولذلك فلكل ما سبق أصحاب هذه النظرية يرون أن للبلاد ربا يحميها، وقد حماها من الثلاثي السابق فأخرجهم جميعا من الانتخابات، وأن باقي المرشحين -خاصة من لهم حظوظ في المنافسة- وجوه يمكن أن يتقبلها المواطن البسيط فهي لا تمتلك ميزة التطرف لليمين أو اليسار، وسيشعر معها بأن الاستقرار قادم؛ ولذلك فلأول مرة سيخرج أصحاب هذه النظرية ليتغنون احتفاءً بفرج الله الذي حلّ.. فهم لا يفكرون في ماذا ستفعل التظلمات القادمة، ولا يشكون بشيء.. بالنسبة لهم السلطة الحاكمة صادقة والعناية الإلهية أنقذتنا وكفى. عايز تضرب أولاد الجيران حط ابنك وسطهم هذه النظرية هي الأكثر سيطرة على الشباب المسيس ومرتادي مواقع فيسبوك والتويتير وغيرهما، فهم يرون في كل ما حدث لعبة متقنة الصنع قام بها المجلس العسكري. مؤكدون أن مَن في السُلطة في مصر -وربما في دول أخرى- يريدون التخلص من المرشحين الأوسع حظوظا؛ وخاصة المنتمين للتيار الإسلامي، ولكن كانت تقابلهم مشكلة؛ فإن قامت لجنة الانتخابات باستبعاد الشاطر وأبو إسماعيل هكذا سيؤدي ذلك لثورة بين أنصارهم ومن يتعاطفون معهم، وربما من يعتنق السياسية عامة حتى لو كان ضدهم كأشخاص، وهكذا ستجد اللجنة العليا نفسها في وضع سيئ وستشتعل البلاد. ولذلك -وفقا لآراء أصحاب هذه النظرية- تمّ الدفع بعمر سليمان بكل ما سيواجهه من رفض وقيل وقال وقانون عزل ودعوة لتظاهرات... وغيرها. وهكذا يستشعر الجميع الخطر القادم، ويسعون بكل ما لديهم من قوة لإزاحته، ثم يأتي قرار اللجنة العليا ليريح الأعصاب من كل هذا الشدّ. فها هو سليمان خارج المنافسة؛ ولكنه قد أخذ معه الشاطر وأبو إسماعيل، وهو الأمر الذي جعل قطاعا كبيرا ممن كانوا سيثورون في حالة استبعاد المرشحين الإسلاميين فقط يهدأون من منطلق أن ما سرى على غيرنا سرى علينا، وأنه "بركة يا جامع" أن خرج سليمان من السباق. وشبهوا ذلك بأنك إن أردت أن تضرب أولاد جارك دون أن يعترض فضع ابنك وسطهم ثم انهال على الجميع ضربا؛ فلن يستطيع وقتها جارك أن يلومك وابنك يُضرَب معهم. أحكام عرفية.. نهر دم.. انتخابات مافيش تبقت لدينا النظرية الأخيرة وهي الأكثر تشاؤما على الإطلاق؛ فأصحاب هذه النظرية فقدوا الثقة تماما في كل ما له علاقة بالسلطة وبالنسبة لهم فكل ما يحدث هو تحريك لقطعة شطرنج في مخطط مُعدّ مسبقا لسيطرة على السلطة وإجهاض الثورة. وعلى هذا فهم يرون أن نزول عمر سليمان في اللحظة الأخيرة ثم استبعاده مع المستبعدين لم يكن إلا وسيلة للعبث بالمشاعر، ثم مع تقديم التظلمات يتم قبول تظلم سليمان فقط ورفض باقي التظلمات، وعلى وجه الخصوص الشاطر وأبو إسماعيل. وهكذا تشتعل البلاد؛ فأنصار أبو إسماعيل مُعدّين بالفعل للاشتعال، وسيزيد من طاقة غليانهم عودة سليمان للسباق. والرافضون لسليمان من شباب الثورة والتيار الإسلامي على أهبّة الاستعداد. وهكذا سيتحول الشارع إلى سيمفونية رفض لا تنتمي لتيار واحد؛ فالإسلاميين من أقصى اليمين إلى المعتدلين والليبراليين والاشتراكين والقوى الثورية المدنية كلهم لديهم من الأسباب ما يدفعهم للاعتراض. ووفقا لأنصار هذا الرأي؛ فمع حالة الفوضى التي ستسود البلاد ستعلن الأحكام العرفية، فإن انصاع المتظاهرين لها كان الفوز الساحق لعمر سليمان وإجهاض الثورة. وإن لم ينصاعوا كان من حق الأمن أن يفض تظاهرتهم بالقوة؛ وهو ما سيتسبب في نهر من الدماء، وتأجيل الانتخابات، وبقاء المجلس العسكري أو من ينوب عنه في السلطة، وأيضا إجهاض الثورة. مهما يكن الأمر فإن هذه النظريات السابقة جميعها تتراوح بين نظريات وضعت على أساس قراءة كل معطيات اللحظة قام بها أشخاص -ليس بالضرورة أن يكونوا أكاديميين أو سياسيين- ولكنهم استقرئوا ما حولهم، وعطفوا الماضي على الحاضر ليخرجوا بنظرية ما، وبين نظريات تعتمد على الشائعات والقيل والقال، أو في النهاية نظريات وضعها أصحاب مصالح من مصلحتهم توجيه الرأي إلى أفكارهم هم. والواقع إن غدا لناظرة أقرب مما نتخيل، فموقف اللجنة العليا للانتخابات من التظلمات سيحسم غدا ويتم الإعلان عنه يوم الأربعاء؛ ووقتها سنعرف بصيصا جديدا من الحقيقة يعيننا أن نفهم ماذا سيحدث في الأسبوع القادم.. ولكن لا أعدك أن تفهم لما هو أبعد من ذلك.