دعونا ننسى أوباما وخطابه وتهديداته لإيران على شاشات التليفزيون، ودعونا ننسى أيضا مَن شيعي ومَن سني، أما عن خبر منع عرض الفيلم في إحدى الجامعات المصرية من قبل التيار الإسلامي فيه، فهذا سأحاول محوه تماما من ذاكرتي، وأنا أفكر وأتأمل التحفة الفنية الإيرانية التي فازت بالأوسكار هذا العام، فيلم "انفصال" للمخرج "أصغر فرهادي". "انفصال" الفيلم شديد الواقعية والبساطة ورغم ذلك استطاع وبجدارة تلخيص العالم، وتكثيف الكثير من الأفكار والظواهر والرؤى ووضعها في كبسولة للمشاهد، إن اختصار المسائل الكبرى وخاصة في العالم العربي والإسلامي ليس سهلاً، فنحن قد تعوّدنا الإطناب والإسهاب والجدل والمطّ والتطويل والملل والتكرار، لدرجة جعلتنا نكرر ثوراتنا وأزماتنا وحتى مآسينا نكررها، دون أن نتعلم من أخطائها.
من المشهد الأول في الفيلم يضعك المخرج كمشاهد في مكان القاضي.. أمامك يمثُل زوج وزوجة عاديان مثل العديدين في البلاد العربية والإسلامية، ترغب الزوجة في الانفصال؛ لأن زوجها لا يوافق على الهجرة، ويرفض الزوج الهجرة؛ لأنه متمسك بالبقاء بجانب والده المسنّ المصاب بآلزهايمر، تريد المرأة السفر للبحث عن مستقبل أفضل لابنتهما، مستقبل هي تعلم جيدا أنها لن تراه في إيران!! ويلوم عليها القاضي ذلك من خلال أسئلته وعباراته المقتضبة التي يسمعها المشاهد فقط دون أن يرى القاضي، وتلوم الزوجة زوجها على انحيازه للماضي ولأبيه وتخليه عن المستقبل الذي يمثل ابنته، ورغم حسم قضية الطلاق بموافقة الزوج عليه، إلا أن القضية الأخرى التي تبقى معلّقة هي "الابنة" المستقبل الذي يتشاجران ويختلفان حوله من الذي سيحظى بها؟؟
بعدها تدخل بك الكاميرا إلى بيت هذه الأسرة، والذي نكتشف أنه يشبه العديد من بيوت أسر الطبقة المتوسطة في مجتمعاتنا العربية، تجمع المرأة أشياءها وتغادر في محاولة منها للضغط على الزوج، فيحاول الزوج استجماع قواه وإثبات عدم حاجته لامرأة قررت التخلي عنه، ثم تظهر المرأة الأخرى والتي ستكون البطلة الحقيقية للفيلم، وهي السيدة التي ستقوم بخدمة ورعاية الرجل المسنّ بديلا عن الزوجة، وفي ذيلها يتعلق مستقبل آخر ممثل في طفلتها الصغيرة والتي ستبقى بصحبتها طوال الفيلم. في الغالب ستتعلق مثلي بتفاصيل الفيلم الصغيرة، مثل التصاق وجه الطفلة على زجاج الباب، ومعاناة العجوز المصاب بآلزهايمر، تعامل المرأة مع فكرة رعايته وتنظيفه، واحتياجها لفتوى تليفونية لتقوم بذلك دون الشعور بالذنب أو بأنها ترتكب خطيئة، الفقر والحاجة وزوجها العنيف منذ تم تسريحه من العمل، والذي يرفض رعاية الرجل العجوز لقلة الراتب، فتضطر هي للقيام للوظيفة بدلا منه ودون علمه رغم أنها مجهدة وحامل في شهورها الأولى.
البعض سيرى في هذا الفيلم قصة اجتماعية شديدة الخصوصية، في مجتمع ارتفعت فيه نسب الطلاق لتصل لأعلى معدلاتها، كما انتشر فيه مرض آلزهايمر كالعتّة في عقول العجائز، سيرى في نظرات الابنة معاناته في تجربة طلاق مشابهة أو في بكاء الرجل أثناء تنظيفه لوالده مأساته هو الشخصية مع أبيه أو أمه.
ولكن البعض الآخر سيرى في الفيلم صراعا بين عالمين، عالم الزوج المتمسك بالماضي أو العالم القديم المرتبط بعاداته وتقاليده وشيوخه وعقائده رغم كل ما ينتج عنهم من مشكلات، وعالم الزوجة الباحثة عن الحاضر والانفتاح على عالم جديد يصل للتفكير في الهجرة والسعي للتغيير، بين ثقافة الجماعة التي تحمي الفرد وتعوله وتتخذ القرارات بالنيابة عنه، وثقافة الفرد الذي يعتمد على المؤسسات في رعايته وتوفير حقوقه من رعاية صحية واجتماعية وحرية، والكل أمامها سواء.
البعض سيرى هذا الصراع كذلك بين الجيل الشاب الثائرالذي أنتج لنا الربيع العربي، وبين الأنظمة الحاكمة المتهالكة والشيوخ المتأسلمين الذين يحاولون التسلل لملء فراغ الحكم مكان الأنظمة الفاسدة المنهارة.
وأثناء كل هذه الصراعات يفقد الزوج أعصابه، فيقع في مشكلة أكبر يدخل بها الزوج في دوامة أخرى تفرضها الجريمة التي ارتكبها، والاختيار ما بين الكذب والنجاة أو الصدق الذي قد يؤدي به إلى السجن، وعندما يصل الطرفان إلى التراضي تتفجر مفاجأة جديدة.. وسأتركك -عزيزي القارئ- تتعرف على كل هذه المفاجآت بنفسك.
ويأتي مشهد النهاية ليعيدك مرة أخرى إلى منصة القضاء، وما زال السؤال قائما.. إلى صف من سوف ينحاز! تقف الفتاة حائرة بين الأب والأم، فيطلب القاضي منهما مغادرة القاعة..
***************** ويبقى السؤال: "يا ترى لمن سينحاز المستقبل؟! للغرب أم للشرق، للقديم أم للجديد، للعالم المتقدم أم للعالم النامي، للدولة الدينية أم المدنية، للوطن أم للهجرة، للجد أم للحفيد، للأب أم للأم؟ ينتهي الفيلم ويصفّق الجمهور لإبداع فريق العمل في صنع هذا العمل الفني المتكامل دون الإجابة عن السؤال المحير: لمن سينحاز المستقبل إذا وجب الانفصال! *****************
إضغط لمشاهدة الفيديو: انفصال * كلام في الفن اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: